
البيتكوين، والنقود الإلزامية، والتمويل الإسلامي
تحليل اقتصادي وأخلاقي وتاريخي للمال السليم في
سياق التعاليم الإسلامية
Harris Irfan & Allen Farrington
اَلْعَرَبِيَّةُ
-
DISCLAIMER: Much of the information included herein is based on Axiom’s views of general market activity, industry or sector trends or other broad-based economic, market or political conditions. There is no guarantee that the views and opinions expressed in this presentation will occur. The views and information contained herein are being provided to you for informational purposes only and are not, and may not be relied on in any manner as, legal, tax or investment adv ice or as an offer to sell or a solicitation of an offer to buy an interest in any investment vehicle (a “Fund”) sponsored by Axiom’s Venture Management, LLC or its affiliates (together with such affiliates, “Axiom”), or any other security.
The information contained herein may not be reproduced or redistributed, in whole or in part, in any format without the express written approval of Axiom. By accepting this information, the recipient agrees that it will, and it will cause its directors, partners, officers, employees and representatives, to use the information only to evaluate its potential interest in the securities described herein and for no other purpose and will not divulge any such information to any other party. Certain information contained herein (including project and financial information) has been obtained from published and non-published sources and has not been independently verified by Axiom, and Axiom does not assume responsibility f or the accuracy of such information. Except where otherwise indicated herein, the information provided herein is as of the date hereof unless otherwise noted, and such information will not be updated or revised after such date. Prospective investors should make their own investigations and evaluations of the information contained herein. Certain information contained herein constitutes "forward-looking statements," which can be identified by the use of forward-looking terminology such as “may,” “will,” “should,” “expect,” “anticipate,” “target,” project,” “estimate,” “intend,” “continue” or “believe,” or the negatives thereof or other variations thereon. Because of various risks and uncertainties, actual events or results or actual performance may diff er materially from the events, results or performance reflected or contemplated in such forward-looking statements. As a result, investors should not rely on such forward-looking statements. No governmental authority has passed on the merits of the offering of interests in a Fund or the adequacy of the information contained herein. Any representation to the contrary is unlawful.
المقدمة
إن النظام النقدي العالمي الحالي القائم على العملات الورقية يتعارض بطبيعته مع مبادئ التمويل الإسلامي. فبينما ينبع التمويل الإسلامي من الإيمان الذي يشجع على الصبر وضبط النفس وغريزة الحفاظ على الثروة، فإن النقد الحكومي مبني على التفضيل الزمني المرتفع، والإسراف في الاستهلاك، وتفشي الديون والخدمات المالية في جميع أنحاء الاقتصاد.
بدلاً من العمل وفق المبادئ الأساسية، ارتكبت المصارف الإسلامية الحديثة المزعومة الخطأ القاتل بتطوير منتجاتها لتتنافس مع القطاع المصرفي التقليدي القائم على الفوائد. فبدلاً من تقديم الخدمات المصرفية كخدمة وصاية، يحتفظ فيها المصرف بثروة العملاء على سبيل الثقة، وبعد ذلك يُقدِّم خدمات منفصلة لإدارة الثروات والاستثمار التي تشارك أرباحها في الأنشطة الاقتصادية الحقيقية، عملت المصارف الإسلامية كمصارف احتياطية جزئية - فهي تأخذ ودائع العملاء بينما تقوم في الوقت ذاته بعمليات إقراضٍ بأكثر مما اقترضته، وبهذا، تخلق نقوداً جديدة في هذه العملية. عملية الخلق هذه تعمل وكأنها شعوذة مالية؛ فالنقود التي يخلقها القرض الذي يقدمونه لم تكن موجودة من قبل، وبهذا، قد يستنتج المرء بشكل معقول أن هناك عملية احتيالية تحدث في كل مرة يقوم فيها المصرف بإقراض النقود. هذا الفائض من النقد (الربح) الذي يتولّد من النقد نفسه هو التعريف الدقيق للكبيرة المحرمة إسلامياً وهي الربا. إن المنتجات التي تقدمها المصارف الإسلامية لعملائها يتم تقديسها بشكل عجيب بحكم إنه يتم تنظيمها وفق عقود متوافقة مع الشريعة (حلال).
إن القطاع المصرفي الإسلامي أوقع نفسه بمأزق تكرار الأخطاء ذاتها التي ارتكبها القطاع المصرفي التقليدي. فبدلاً من التأكيد على العودة إلى أساسات النموذج الاقتصادي الإسلامي (مشاركة الأرباح في الاقتصاد الحقيقي) كما وعدت به في مرحلتها التجريبية الأولى قبل حوالي ستين عاماً، قام نموذج أعمالها الحالي بالاحتفاء بأمولة الاقتصاد الأمر الذي أدى وما زال يؤدي إلى حدوث المزيد من الديون والمزيد من الخدمات المالية.
إن إضافة هذه العقود المتوافقة مع الشريعة على قاعدة تتطلب تضخيم المعروض النقدي من خلال عملية الإقراض لا يمكن أن يكون النتيجة الاجتماعية المرجوة من النموذج الاقتصادي الإسلامي. والإسلام ليس وحده من يعتقد بهذه الرؤية. فعندما طرد عيسى عليه السلام بشكل صارم الصرافين من معبد هيرودس[1]، هو كان يثور ضد ممارستهم في فرض الرسوم المرتفعة، تلك التي فُرضت على الحجاج، بشكل غير عادل على النقود الفضية الأجنبية كمقابل لضريبة المعبد البالغ قدرها نصف شيكل. إن الحط من قيمة العملة هذا لا يختلف في المفهوم المعاصر عن عملية الحط من المعروض النقدي من خلال الإقراض المصرفي والطباعة من قبل البنك المركزي. لهذا، نعتقد أن عيسى عليه السلام للأسباب ذاتها سيكره المصرفيين المعاصرين أيضاً.
لم يكن من المفترض أن تكون الأمور على هذا النحو. فعندما أسس الاقتصادي المصري أحمد النجار أول مؤسسة مالية إسلامية معاصرة في بلدة ميت غمر عام 1963، كانت رؤيته تهدف للعودة إلى الاقتصاد النبوي، حيث يأخذ الممول الودائع ويستثمرها في القطاع المحلي، ثم يقوم بمشاركة الأرباح مع المودعين. إن أساس هذا النموذج الاقتصادي هو التجارة: فالتمويل كان مجرد أداة لمساعدة وتسيير الاقتصاد الحقيقي، ولم يكن سيداً عليه. كان النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) نفسه مضارباً، أي مديراً لرؤوس أموال الآخرين، يأخذ الاستثمارات للمشاركة في تجارة القوافل، ويخاطر بالبيئة القاسية للصحراء إضافةً لوجود مخاطر قطع الطرق، ويشتري السلع الحقيقية في رحلاته ويعود إلى المدينة لبيعها في السوق، ثم يقسم الأرباح وفقاً لصيغة تم الاتفاق عليها مسبقاً مع مستثمريه. لقد كان هذا أنقى شكل من أشكال التمويل الإسلامي.
ولكن مع تَوسُّع تجربة بلدة ميت غمر لتصل إلى ثماني مؤسسات ادخار اجتماعية في مصر، بدأت تتحول إلى نسخة مُقلَّدة من المصارف الاحتياطية الجزئية القائمة على النقود الحكومية الورقية. وفي عام 1975، تم تأسيس أول مصرف إسلامي لتقديم الخدمات المصرفية للشركات، وأول مؤسسة متعددة الأطراف في هذا الإقليم. كلاهما بدأ مسيرته بِنيَّة تسويق التمويل الإسلامي، ولكنهما وقعا في فخ إعادة هندسة التمويل التقليدي القائم على الديون. في الوقت الذي بدأت فيه ممالك الخليج تتبنى السلام الأمريكي، حينها ربما كان من المقبول أن تطور مؤسساتها المالية هويتها الثقافية الخاصة ولكن ليس لدرجة أن تعزل نفسها عن أهم شريك استراتيجي لها، وإلى جانب ذلك، إن إغراء طباعة النقود كان قوياً جداً لدرجة لا يمكن تجاهلها. وبهذا، انجرفت الخدمات المصرفية الإسلامية إلى مدار النظام النقدي القائم على النقود الحكومية الورقية، وعلقت به.
وبهذا، أصبح الاقتصاد الحديث بمثابة العقيدة، وهي عقيدة تتجاهل التاريخ الاقتصادي. هذه العقيدة هي السبب في أن شركة "إنرون" احتُفي بها كـ "الشركة الأكثر ابتكاراً في أمريكا" وذلك من قِبل مجلة "فورتشن" لست سنوات متتالية، ثم انهارت بشكل كارثي وسط ضباب من الديون الخفية والأصول الفاسدة التي كانت ضمن أغراض خاصة تقع خارج الميزانية العمومية. وهي العقيدة ذاتها التي احتفت بقطاع التوريق المالي، معتبرة أن تقسيم القروض ذات الجودة الرديئة - التي يحمل كلٌ منها احتمالاً مرتفعاً للتخلف عن السداد - ثم تجميعها في أدوات قروض جماعية تسمى "التزامات الديون المضمونة"، إن هذه العملية تجعلها بطريقة ما ائتمانات جيدة. لكن عندما تصطدم الأمنيات بالواقع، وتنهار هذه الائتمانات السيئة التي تم تجميعها، حينها سيعاني هذا العالم من ويلات الأزمة المالية العالمية.
على الرغم من هذا المثال وغيره من الإخفاقات الواضحة، يصف لوبي المصارف عملية انتقاد خلق النقود من خلال عملية الإقراض أو هيكلة الأدوات المشتقة غير الملموسة البعيدة كل البعد عن الاقتصاد الحقيقي بأنها عملية متطرفة أو غير عادلة. ويمكننا تشبيه الاقتصاديين بالكهنة المسيحيين في العصور الوسطى، فهم ينقلون كلام الله باللاتينية بهدف تعتيم وإرباك الناس، مما يتيح لهم التوسط بين الأطراف، والسيطرة على الأفراد وعلى الحقيقة.
إن فشل نظامنا المالي والنقدي خلال الأزمة المالية العالمية وما تبعها من إنقاذ المصارف، الذي تَطلَّب منا ضخ تريليونات الدولارات من النقود الجديدة، لا تزال آثاره تتكشَّف حتى يومنا الحالي. وبدلاً من السعي لعلاج المرض نفسه، يسعى نظامنا النقدي فقط إلى تخفيف الأعراض بشكل مؤقت ودوري، وبطرق تؤدي أحياناً إلى أضرار جانبية ناجمة عن التدخل نفسه. فهؤلاء الكهنة يستخدمون مصطلحات جديدة على الطراز اللاتينيي مثل مصطلحات "التيسير الكمي" و"ضخ السيولة" لإخفاء حقيقة أن الثروة يتم سرقتها من المواطنين العاديين عبر التضخم بهدف موازنة دورات الازدهار والكساد، وهي التي تحدث بسبب عمليات خلق الائتمان غير المقيدة بالثروة الحقيقية، أو بالنقود الحقيقية. وبهذا، تتسع الفجوة بين الأغنياء والفقراء، ويزداد نقل الثروة من الجنوب العالمي إلى الشمال العالمي بمعدلات فلكية، ويصبح عالمنا مُستقطَباً وغير متناغم بشكل متزايد.
هل يكمن الخطأ في النظام المصرفي والنقدي، أم في المدراء؟ يبدو أن العامة والناخبين يعتقدون أن الخلل بالمدراء: فمن خلال انتخاب حكومات جديدة وتعيين محافظي بنوك مركزية جُدد يعدون بـِ "إدارة أكثر حكمة للاقتصاد"، فإنهم يضعون ثقتهم في مدراء جدد لتصحيح فترات الركود في الاقتصاد. ومع هذا، فقد كانت سياسة الحكومات والبنوك المركزية غير فعالة. ففي أواخر الثمانينيات، على سبيل المثال، لم تكبح أسعار الفائدة المرتفعة في المملكة المتحدة نمو المعروض النقدي، ولم تقلل التضخم كما توقعت النظرية الاقتصادية الكلاسيكية الحديثة. ولهذا، الاستنتاج المنطقي هو أن الخطأ يكمن في النظام نفسه.
إن "تمجيد" الناتج المحلي الإجمالي وطرق التقييم الحديثة أدى إلى نشوء مجتمع سوقي يُفضِّل القيمة التبادلية على القيمة المعيشية. نتيجة لذلك، ازداد تفضيلنا الزمني. فنحن نريد الأشياء الآن، ونريد الكثير من هذه الأشياء. وبهذا، انخفضت قدرة المجتمع على الصمود والاستدامة لأننا نستهلك أكثر، ونحضِّر فقط للمستقبل القريب. على سبيل المثال، نحن نفضل إنفاق النقود واستبدال الأشياء بشكل متكرر لأن النقود التي يتم طباعتها دون ضوابط وبلا حدود تفقد قيمتها بسرعة. ولهذا، ننفق المال على مشاريع عديمة الفائدة من الناحية الاجتماعية، ونتعمد إدراج التقادم (عدم الديمومة) في المنتجات الجديدة. فلا نصلح الأشياء المتعطلة؛ وبدلاً من ذلك، نرميها ونشتري أشياء جديدة. فنحن نلوِّث ونساهم بعملية التصحير. وهذا هو جوهر التفضيل الزمني المرتفع، وهو نموذج قائم على مبدأ اقترِض-انفِق-استهلِك الذي يشوه الثقافة الحقيقية ويحولها إلى مجرد منطقة اقتصادية - مكان بلا بهجة لينتهي بنا الحال في النهاية إلى حالة من الخدر وفقدان الإشباع الروحي.
هل يمكننا تجربة نهج مختلف؟ هل يمكننا أن نزرع بشكل منهجي بذور بعض الفضائل كالتشجيع على الادخار والاستثمار للمستقبل، حيث يتم تقدير الاستدامة طويلة المدى، ولا تفقد النقود قيمتها بسرعة كبيرة بحيث نُجبَر على اتخاذ قرارات استثمارية غبية ومتسرعة، وبدلاً من ذلك نجري دراسة متأنية ودقيقة للنشاط الاقتصادي الحقيقي الكامن وراء المعاملات؟ ماذا لو تمكنا من تطوير نظام مالي ونقدي يمنع الديون من أن تكون منتشرة بشكل كبير، والتي تكون فيها الأسواق مُهيمَن عليها من قبل عدد قليل من الجهات العملاقة الذين لديهم إمكانية الوصول إلى المزيد من الائتمان المصطنع الذي يجعلهم ليسوا فقط كبار، ولكن في الواقع، أكبر من أن يفشلوا؟
يبدو أنه من غير المحتمل أن يتم تطوير مثل هذا النظام. فالعالم معقد وغير مثالي. والبشر جشعون ولا يمكن توقُّع أفعالهم. كما أن النظام الذي يعمل لصالح القلة القوية ليس نظاماً من المحتمل أن يتغير، أو نظاماً سيسمح لنا به أولئك القلة القوية بتغييره. ولكن ما نأمل أن نظهره لكم هو أنه لدينا بالفعل الأدوات اللازمة لإحداث هذا التغيير. وإحدى هذه الأدوات هي نموذج اقتصادي يقوم على منظومة من القيم كالعدالة والإنصاف. والآخر هو نظام نقدي لا يمكن التلاعب به ولا يمكن تضخيمه، ومقاوم للرقابة، وآمن، ومحدود.
قبل الغوص في التفاصيل، اسمحوا لنا بمقدمة قصيرة وشخصية يقدمها لكم كل المؤلفين المشاركين، وذلك كي نوصل منظورنا لكم، ولعله يتم تقدير ما نحاول تحقيقه:
أنا المؤسس المشارك والرئيس التنفيذي لشركة "كوردوبا كابيتال ماركتس"، وهي منصة تمويل تجارية إسلامية، ومستشار لشركة "أونرامب" في الشرق الأوسط وشمال افريقيا، وهي جهة وصاية متعددة المؤسسات مُتخصصة في حفظ عملة البيتكوين. في أوائل الـ 2000، شاركت في تأسيس فريق التمويل الإسلامي في مصرف "دويتشه"، حيث ابتكرنا أدوات مالية متطورة متوافقة مع الشريعة الاسلامية، بما في ذلك "الصكوك ذات الحجم المعياري" التي أصبحت الآن شائعة في كل مكان، وهي ما يُعرف بالسندات الإسلامية.
قبل عدة سنوات، عندما كنت مصرفياً استثمارياً، كنت ألقي محاضرات حول موضوع التمويل الإسلامي. كنت قد أمضيت أكثر من عقد مع مصرف " دويتشه"، وكنت أشعر بالرضا والاعتزاز الذاتي لما اعتقدت أنه أثر اجتماعي مفيد لعملي في مجال التمويل الأخلاقي. لقد كنت مخطئاً بشأن التأثير الاجتماعي، على الرغم من أنني تصورت نفسي مدافعاً عن قطاع التمويل الإسلامي وذلك من خلال تصميم ما اعتقدت أنه منتجات جديدة رائعة، حيث أقنعت المصارف الكبرى ببيع هذه المنتجات للمسلمين، وبشكل عام بشرت بمفهوم القطاع المصرفي الحلال الخالي من الفوائد، ولكنني في الواقع كنت أخدع نفسي. فالخدمات المصرفية الإسلامية هو مصطلح يناقض نفسه. فحتى لو تم هيكلة منتج مالي ليكون قانونياً قائماً على عقود متوافقة مع الشريعة، إلا أنه إذا كان الأساس الذي يتم على أساسه تقديم هذه الأداة هو خلق النقود من خلال عملية الإقراض من قبل مصرف يعمل بنظام الاحتياطي الجزئي، عندها لا يمكن لهذين المفهومين أن يتعايشا معاً منطقياً.
كمسلم يمارس عقيدته، أؤمن أن الربا كبيرة من الكبائر لدرجة أن القرآن حذرنا منها في قوله: "حرب مع الله ورسوله"[2] إذا ما ارتكبنا هذه الكبيرة. لقد كانت نيتي دائماً أن أتدبر في الاقتصاد النبوي - العودة إلى أساس التجارة تماماً كما مارسها النبي نفسه (صلى الله عليه وسلم) - في الأدوات المالية التي صممتها أنا. وعلى الرغم من السنوات العديدة التي قضيتها في الاجتهاد، إلا أنني استنتجت أنه ببساطة لم يكن من الممكن تجسيد التمويل الإسلامي "الحقيقي" من خلال النظام المصرفي. وقد تركت هذا القطاع لإنشاء وسيط مالي غير مصرفي لتنفيذ ما أعتقد أنه نموذج أنقى، أي نموذج يشارك المخاطر والمكافآت في أنشطة تجارية حقيقية.
إن نموذج التمويل الأخلاقي يتطلب نظاماً نقدياً لا يمكن به طباعة النقود بلا حدود، ولا يمكن التلاعب به. للأسف، نحن لا نعيش في مثل هذا العالم في يومنا الحالي، لكنني أعتقد أن الحل موجود...
- "هاريس عرفان"
أنا المؤسس المشارك، والشريك العام في "أكسيوم"، وهي شركة رأس مال استثماري تركز على منظومة البيتكوين، والمؤسس المشارك والرئيس التنفيذي لشركة "فْلَكْس"، ومدير أصول متخصص في البيتكوين. قبل الانتقال إلى مجال البيتكوين، عملت في إدارة الأصول المؤسسية. أدركت تدريجياً أنه في حين أن تسعير وتوفير رأس المال الأساسي للشركات يُعدّ بلا شك نشاطاً له قيمة اجتماعية حقيقية، إلَّا أنه في النسخة المعاصرة من هذا القطاع، تُعدُّ هذه المهمة ثانوية عند مقارنتها بالسعي الدائم لملاحقة القوة المدمّرة للتضخم، لصالح مستفيدين بالكاد يسعون لـِ "الادخار". إن هذه المهمة البسيطة، التي تُعدُّ أساسية لحكمة الفرد كما هي أساس لصحة الحضارة، لا يمكن تحقيقها ببساطة في ظل وجود نظام النقد الحكومي الورقي وغياب الوساطة الضخمة. وبالتالي، فإن معظم "إدارة الأصول" هي رد فعل السوق لملء هذه الحاجة. وعندما نرى أن هذا القطاع يتضخم ليتحول إلى منظومة طفيلية إلى حد كبير بحيث يثري المشاركين فيه أولاً وقبل كل شيء، ويوفر مدخرات زائفة بشكل سيء كفكرة لاحقة، حينها يبدو لنا أن القطاع ككل يساهم في خلق الائتمان بالقدر الذي يزعم أنه يعالجه. ولهذا، إن هذه المنظومة بالكاد هي أقل تسبباً في حدوث المرض نفسه من القطاع المصرفي القائم على النقود الحكومية الورقية.
وبقدر ما يكمن اهتمامي بالبيتكوين في جانبه الاجتماعي أكثر من التقني، فإن هدفي هو محاولة للمساهمة في حل هذه المشكلات والعودة إلى نظام مالي أكثر عدلاً، واستقراراً، وعقلانية بحيث يكون قائم على معيار نقدي صعب: نظام تكون فيه الوساطة المالية اختيارية لا أساسية، والغرض منها هو تخصيص رأس المال الأساسي للمشاريع الجديرة، لا في سوء تخصيصه عبر خلق فقاعات ائتمانية لا تنتهي.
كما سنستعرض أنا وهاريس في هذه الورقة: رغم أنني لست مسلماً، فقد توصلت إلى الاعتقاد بأن التمويل الإسلامي هو ما سينشأ بشكل طبيعي وحتمي فوق شبكة البيتكوين، إلى الحد الذي تكون فيه الوساطة المالية مفيدة وجديرة بالاهتمام، وربما على نحو يثير الدهشة، سيحدث ذلك رغم أن هذا الوضع لم يكن في نية مناصريه. إن الرواية المختصرة من هذه الأطروحة هي أن التمويل الإسلامي نشأ انطلاقاً من الدينار في العصر الذهبي الإسلامي – وهو أحد أصعب المعايير النقدية في التاريخ وأطولها – وقد تمثَّل ذلك في تقدير الندرة الحقيقية، وعدم اليقين، والرؤية بعيدة المدى التي يفرضها هذا النظام على المشاركين فيه، وقد تم تجسيد ذلك لاحقاً في منظومة أخلاقية متكاملة. إن وجود مثل هذه المنظومة، لنرثها وندرسها ونطبقها، هو نعمة عظيمة. أما النسخة المطولة... فهي كل ما يلي...
- "ألِن فارينجتون"
[1] متى 21:12-13، مرقس 11:15، لوقا 19:45-46، يوحنا 2:12-16
[2] القرآن الكريم، سورة البقرة، الآية 279
الجزء الأول: التمويل الإسلامي
(أ) مبادئ التمويل الإسلامي
إذا قرأ المرء كتاباً عن التمويل الإسلامي، فمن المحتمل أن يبدأ ذلك الكتاب بتوضيح أن مبادئ التمويل الإسلامي مستمدة من المصدرين الأساسيين للشريعة أو القانون الإسلامي. المصدر الأول هو القرآن الكريم، وهو وحي من الله أُنزِل على رسوله محمد (صلى الله عليه وسلم) وهو ما يعتقد المسلمون أنه رسوله الأخير. والثاني هو الأقوال والأفعال المروية والمسجلة للنبي عن طريق الصحابة، فيما يُعرَف اليوم باسم كتب الحديث.
بشكل عام، مع بعض الاستثناءات القليلة جداً، يميل القرآن إلى وضع إطارٍ أخلاقي لتنظيم العلاقات، أي المبادئ العامة لطريقة الحياة. وفيما يخص الناحية العملية، تقوم الأحاديث في كثير من الأحيان بتبيان الأمثلة والتطبيقات العملية على كيفية تطبيق هذه المبادئ العامة. بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وسلم)، قام العلماء بتقنين مختلف مجالات الفقه الإسلامي بناءً على هذين المصدرين. وإحدى تلك المجالات الفقهية كانت فقه المعاملات. ومن هذه المنظومة من الأعمال، شهد العصر الإسلامي المبكر تَطوُّر الأدوات المالية التي مكنت التجارة لمسافات طويلة، وأتاحت التمويل العابر للحدود.
في هذه المرحلة، تقوم تلك الكتب بتعريف سلسلة من الكلمات التي قد تبدو متشابهة ومُربكة لغير الناطقين بالعربية، وكلها تصف أنواعاً مختلفة من العقود التجارية التي من المفترض أن تُشكّل أساس الترتيبات التجارية والمالية الموجودة في التمويل الإسلامي المعاصر. ومع ذلك، فإنه في العالم الحقيقي، تتجاهل المؤسسات المالية الإسلامية تقريباً جميع هذه البُنى النظرية، وتركز بدلاً من ذلك على القليل جداً منها وخاصةً تلك التي تشبه إلى حدٍ كبير القروض الربوية لتنفيذ معظم عملياتها.
الأجدر بنا أن نعود إلى مصادر الشريعة ذاتها. فماذا يقول القرآن الكريم وكتب الحديث عن علاقاتنا مع عائلتنا، ومع جيراننا، ومجتمعاتنا، والمسافرين، والغرباء؟ كيف يجب أن نتعامل مع بعضنا البعض؟ ما هو نوع التجارة المباح؟ وما هو النوع المحرم؟
إذا فعلنا ذلك، قد نصل إلى الاستنتاجات التالية (دون ترتيب معين):
- أعطِ بسخاء في الصدقة، احمِ اليتيم والمحتاج، واعتنِ بالمسافر.
- كن عادلاً في تعاملاتك؛ لا تستغل الضعفاء والمستضعفين.
- الربا (الفائدة) حرام، وهو كبيرة من الكبائر. سنتحدث عن ذلك بمزيدٍ من التفصيل لاحقاً.
- "ابذل الجهد في النشاطات الاقتصادية الحقيقية:" [1]فمصالح البشرية تُخدَم بأفضل وجه من خلال مهارات التجارة الحقيقية، والصناعة، والبناء، وليس من خلال الأمولة.
- خلق الله النقد كي يتم تداوله بين الناس، وليعمل كحكم عادل بين السلع المختلفة."[2] فالنقد وسيلةٌ للتبادل، وليس سلعة للتداول.
- من الأفضل مشاركة المخاطر بدلاً من نقلها، لأن الترتيبات غير المتكافئة تؤدي إلى نتائج اجتماعية سلبية.
- لك كامل الحق في السعي وراء الثروة وطلب الرزق، لكن هذه الحياة فانية ودار اختبار، فكن تقيَّاً، ولا تؤذِ أحداً، وكن خليفةً جيداً على هذا الكوكب.
- الأسعار بيد الله، أما تنظيم الأسعار ومركزية السوق فهما يؤديان إلى الظلم.
إنَّ الجمع بين هذه المبادئ، يدفعنا لرؤية أن التمويل الإسلامي يملك بصيرة عميقة تجاه المخاطر الحقيقية المرتبطة بريادة الأعمال. بل ويمكن القول إنه يفرض التواضع في مواجهة عدم اليقين الاقتصادي وذلك لأن فكرة أنك تستطيع أن تعرف ما سيحدث مستقبلاً ليست فقط فكرة مستحيلة (وفقاً للاقتصادي هايك) أو حمقاء (من حيث الحس السليم) بل تتجاوز ذلك لتصل إلى مرتبة التجديف. فالله وحده عليم بكل شيء، وبالتالي، إن التصرف كما لو كنت تعرف ما سيحدث يُعتبر عملاً خاطئاً من الناحية الأخلاقية. ولهذا، وبما أننا لا نستطيع معرفة ما سيحدث مستقبلاً، فإنه يتوجب علينا اتخاذ قرار مستنير وتحمل مسؤولية تبعاته. وبالتالي، إذا كنا سنستفيد في جميع الأحوال بغض النظر عما سيحدث، فهذا يعني أننا نتهرب من المسؤولية التي يجب أن نتحمّلها كمشاركين في النشاط الاقتصادي. قد يقول المرء أنه ليس مضطراً لتحمل أي مسؤولية معينة، لكن إذا أراد أي شخصٍ الحصول على مكافأة غير مضمونة، فيجب أن تكون هذه المكافأة كنتيجة لتحمله جزءاً من المخاطر.
إن تطبيق هذه الرؤية الأخلاقية الجوهرية على التطبيقات العملية يلقي ضوءاً هاماً على مسألة الربا، والتي هي أكثر تعقيداً من التصور الغربي الشائع بأنها مجرد "فائدة": فإذا أقرضتَ شركة ما، بِنيَّة أن يأتي عائدك من مدفوعات الفائدة التي تُستخلص من أرباح تلك الشركة، لكن يتم الدفع لك قبل توزيع الأرباح على المساهمين أو قبل إعادة استثمارها، ففي هذه الحالة ستحصل على العائد بغض النظر عما سيحدث. لا يهم إذا كان المشروع جيداً أو سيئاً؛ لا يهم من يتحمل المسؤوليات ومن يتخذ القرارات - أنت ستحصل على عوائدك في جميع الأحوال.
هنا بالذات يكمن جوهر المخالفة حيث يبدو أنه من المستحيل تجنب خرق واحد على الأقل من المبادئ الأساسية المذكورة أعلاه: فإما أنك تَدَّعي معرفة المستقبل - تعرف أنك ستحصل على عوائدك لأنك تعرف المستقبل - أو أنك تتجنب المسؤولية - لا تعرف المستقبل ولكن هذا لا يهم لأنك ستكون مستفيداً بغض النظر عما سيحدث. يُنظر إلى هذه العملية على أنها "نقل المخاطر": حيث يتم نقل المخاطر من طرف إلى آخر بدلاً من مشاركتها بين أولئك الذين يوفرون رأس المال للمشاريع.
(ب) تطبيقات التمويل الإسلامي
ماذا ينبغي أن يكون عليه شكل التمويل الإسلامي؟
إذا كانت نية الاقتصاد الإسلامي تشجيع ومكافأة ريادة الأعمال، ولكن دون طغيان أو استغلال، فيجب على التمويل الإسلامي أن يعود إلى جذوره في التجارة. فعندما كانت القوافل تخرج من أسوار المدينة المنورة للحصول على المنسوجات والتوابل، وتعود إلى المدينة وتتاجر ببضاعتها في السوق، كان يتم تقسيم الأرباح بين المدراء (الذين تحملوا المخاطر الجسدية الحقيقية للتجارة) وبين مستثمريهم، أي الذين قدموا رأس المال.
فعندما يكون لدى الطرفين - المدراء والمستثمرين - مصلحة في التجارة، يكون لديهما الحافز لاختيار مشاريعهم وشركائهم بعناية. كان النبي (عليه الصلاة والسلام) نفسه مضارباً، مديراً لرؤوس أموال الناس. وقد أُعجِبت خديجة، وهي من أغنى تجار مكة، بأمانته وحنكته، وقدراته الإدارية، فاختارته شريكاً تجارياً، ثم شريكاً مثالياً للحياة.
يُعرف هذا الترتيب الاستثماري الإداري باسم المضاربة. وأول متطلباته هو أن يكون المشروع المستثمَر به قانوني وحلال، أي لا يُخالف الشريعة. وبالتالي، على سبيل المثال، لا يجوز الانخراط في مشروع قائم على تجارة الكحول أو إدارة الكازينوهات. ويجب أيضاً أن يكون المشروع واضحاً ومحدداً بشكل كافٍ لتقليل الغرر، أو عدم اليقين. ومن الأمثلة على الغرر عملية بيع بقرة حامل: فقد يُولَد العجل ميتاً وبالتالي، لا يمكن للمرء أن يعرف على وجه اليقين ما هي السلع التي سيتم توفيرها عند نضج الاستثمار. مثال آخر قد يكون: "إذا كان الطقس جيداً غداً، سأدفع لك س؛ أما إذا كان سيئاً، سأدفع لك ص."
بالطبع، لا يمكن إنكار أن نتائج السوق غير مضمونة، ولكن هذا يُعتبر مخاطرة مقبولة بل وفعلياً مفيدة للمشاركين في الاقتصاد. فهي تشجع على ريادة الأعمال، وتطوير التقنيات الجديدة والمساهمة بالتقدم البشري. كما أنها تحفز على القيام ببحث وتحليل جاد قبل اتخاذ القرارات، وبالتالي، تقلل من قرارات الاستثمار السيئة. وكما سنرى لاحقاً، إن هذه العملية تعمل على أفضل وجه عندما لا يكون النقد نفسه سلعة للتداول، بل عندما يكون النقد وسيلة للتبادل ومخزناً للثروة، أي عندما تؤدي طبيعة النقد إلى نشوء تفضيل زمني منخفض وتخطيط طويل المدى.
إن تقاسم المخاطر بين المدراء والمستثمرين ينعكس في تقسيم الأرباح (أو الخسائر) الخاصة بالمشروع، وهو النقيض للعلاقة غير المتوازنة التي تكون قائمة بين المقرض والمقترض (السيد/العبد). فإذا نجح المشروع، يربح الجميع. وإذا فشل، يتقاسمون الألم. وهكذا يصبح "أصحاب المصالح" شركاء فعليين، يتقاسمون المخاطر عبر الاقتصاد.
وأخيراً، لا بد أن تكون معايير المشروع واضحة ومحددة. ويجب أن يكون التعريف كالآتي: هو نشاط اقتصادي حقيقي غير ضارٍ بالمجتمع، ونشاط يتيح لنا تصنيع السلع والخدمات الحقيقية، لا أن يكون عمليات لتطوير الأمولة غير الملموسة، أو لانتشار الديون والمشتقات. (بالطبع يجوز أن تكون الخدمات المالية نفسها محل الاستثمار، بشرط أن تكون متوافقة مع الشريعة).
الآن، ماذا يحدث عندما نأخذ عقود المضاربة (أو شقيقتها "المشاركة"، شراكة استثمارية) ونحولها إلى أداة تمويل إسلامية معاصرة؟ دعونا نفكر في إحدى الأدوات الأكثر شعبية، وهي الصكوك، أو السندات الإسلامية.
الصكوك مثل السندات التقليدية، هي أدوات مالية متقدمة تُتداول في الأسواق، وتكون عادة مُدرجَة في البورصة، وتُعطي حاملها حق الحصول على دخل دوري من الجهة المُصدِرة. وفي حالة تمويل السندات، يكون المُصدِر هو المقترض، والمدفوعات هي الفوائد على السند (الكوبونات). أما في إصدار الصكوك، المُصدِر نظرياً، ليس مقترضاً. بل، كما في النموذج التقليدي النبوي، يكون المُصدِر شريكاً، يتقاسم العوائد مع مستثمري الصكوك ضمن نشاط تجاري حقيقي.
وكما في السندات، يتم إصدار الصكوك عبر جهة لها غرض خاص، غالباً من قِبل شركة منزوعة الملكية (شركة يتيمة) تم إنشاؤها في مركز مالي خارجي بهدف تقليل الضرائب، مع وجود مدراء مستقلون يعملون نيابة عن المستثمرين، وغالباً ما يتم ذلك بموجب الثقة بين الأطراف. وتحصل هذه الجهة على مصلحة نفعية في هذا النشاط الذي يتم تمويله. وقد يكون هذا النشاط، على سبيل المثال، توفير وقت البث للاتصالات المتنقلة. في هذه الحالة، يقوم المستثمرون بتمويل رأس المال التشغيلي اللازم لتوفير خدمات الهاتف المحمول، ويكسبون عوائدهم من خلال حصة من أرباح رسوم عقود الهواتف المدفوعة من قِبل العملاء النهائيين.
وهنا، تقوم الجهة المُصدِرة بتقديم الشروط والأحكام الكاملة في "نشرة الاكتتاب" للمستثمرين، وتبرم اتفاقية اكتتاب معهم، وفي الوقت ذاته تُبرم عقد مضاربة مع شركة الاتصالات، وتحدد من خلاله كيفية توزيع رأس المال، وكيفية تقسيم الأرباح. وبالتالي، فإن شركة الاتصالات هنا تكون هي المُضارِب.
النقطة الأهم - وعلى النقيض الصارخ من السندات التقليدية - ولتجنب تكرار خطيئة السندات التقليدية، تكمن في أنه لا يمكن للمضارب أن يضمن إعادة رأس المال للمستثمرين. ولهذا، يكون سداد رأس المال مرتبطاً بالقدر الذي يكون فيه المشروع ناجحاً. وهذا هو جوهر الخطر الذي يجب على المستثمرين تقييمه بأنفسهم قبل الدخول في الاكتتاب.
نسمي هذا النوع من الصكوك بـِ "صكوك المضاربة". وهناك العديد من النماذج النظرية الأخرى القائمة على أنواع مختلفة من الترتيبات التعاقدية الأساسية، مثل عقود الإيجار أو اتفاقيات من نوع الوكالة. ولكن الأساس لها جميعاً هو الفكرة القائلة بأن الأداة يجب أن تتحمل المخاطر في نشاط حقيقي، ويجب أن تتم مشاركة تلك المخاطر بين المدراء والمستثمرين، ويجب على المدير ألا يضمن العائد، مهما كانت الظروف. وهذه النقطة الأخيرة ستكون هامة في تقييمنا للتمويل الإسلامي المعاصر.
[1] إحياء العلوم، للإمام الغزالي، نقلاً عن القلعاوي، المصارف الإسلامية (دار المكتبي، 1998)، صـ 52، كما ورد في اقتباس عن العثماني.
[2] الإمام الغزالي، إحياء العلوم، الجزء الرابع (1997)، صـ 348، كما ورد في اقتباس عن العثماني.
الجزء الثاني: النقود الحكومية الورقية مُحرَّمة
(أ) مبادئ وآليات تمويل النقود الحكومية الورقية
لنكن واضحين، لا يوجد كيان فعلي أو مستقل أعلن عن وجوده بنفسه يُدعي "التمويل الحكومي الورقي". وفي حين أن هذا المصطلح ساخر إلى حد ما، إلا أننا عندما نستخدم هذا المصطلح فنحن نقصد به الإشارة إلى النظام المالي الدولي الحديث والمنتشر في كل مكان. ويترتب على ذلك بشكل مباشر أن هذا النظام يتناقض جوهرياً مع مبادئ التمويل الإسلامي وسنقارن ونوضّح في هذا القسم أوجه هذا التناقض. أما في القسم التالي فسنصف كيف أدت الهيمنة الجيوسياسية الأمريكية إلى فرض هذا النظام على أغلب دول العالم، مما جعل ما يُسمّى اليوم بـِ "التمويل الإسلامي" مسألة لا تَمتُّ للإسلام الحقيقي بصلة.
يقوم التمويل الحكومي الورقي على ثلاثة مبادئ أساسية: أولاً: الخدمات المصرفية التجارية التي تعمل بنظام الاحتياطي الجزئي مستخدمة النقود الحكومية الورقية القائمة على الديون بدلاً من النقود السلعية. ثانياً: البنوك المركزية التي تدعم سياسياً هذا النظام المصرفي التجاري. ثالثاً: تطبيع استخدام الفائدة، التي تم هندستها لتكون حاضرة في كل العمليات المالية.
نظام الاحتياطي الجزئي يفصل بين خلق النقود والائتمان وبين الموارد الحقيقية. فهو يثبط التسعير السليم لرأس المال في ضوء شهية المدخرين وذلك كي يتم توجيه الموارد إلى مشاريع أكثر خطراً وكي يتم إخفاء تكاليف الفرصة البديلة لتوظيف رأس المال. وفي حين أن الترجمة الحرفية لكلمة "ربا" هو "الزيادة" أو "الفائض"، بما يُشير إلى أن فرض المال (العائد) على المال هو أيضاً مُحرَّم، فإنه يمكن للمرء أن يستنتج بشكل معقول من هذا الأمر أن خلق النقود من العدم هو أيضاً مُحرَّم، والعديد من علماء الشريعة يؤيدون هذا الرأي. فخلق المال لا يتيح فقط للأطراف الأقرب إلى مصدر إصدار النقود أن يصبحوا أغنى بشكل غير عادل وأسرع من غيرهم، بل يعني أن المصارف لا تجد حافزاً لتحمّل المخاطر، طالما أنها تستمر في جني الأرباح من مجرد نقل المخاطر إلى أطراف أخرى.
وفي حال لم يكن الأمر سيئاً بما فيه الكفاية، فإنه يصبح أكثر سوءاً عندما يدرك المرء أن هذا الأمر يقترن، بالعرف المعاصر، في رهنه للأصول الحقيقية مع استمرار استخدامها. ولقد أدرك المسيحيون الأوائل والمسلمين بأن مقرضي النقود غالباً ما طالبوا بضمانات لدعم قروضهم القائمة على الفوائد، ما أدى حتماً إلى ظهور عبودية الديون، أي أن الإنسان يرهن نفسه وأسرته للعمل كعبيد إذا لم يتم جمع الضمانات. ولهذا، قد يجادل المرء بشكل معقول بأن التمويل الورقي خلق نسخة معاصرة من عبودية الديون لصالح المصارف.
تزيل البنوك المركزية أي أثر للمخاطر المالية من النشاطات المحفوفة بالمخاطر للبنوك التجارية، وذلك لأن الهدف السياسي من وجودها هو ضمان أن يتم تحميل كل الخسائر المصرفية، الناتجة بطبيعة الحال من الطبيعة الجوهرية للنقود الحكومية الورقية، على المجتمع بأسره بصفته دين أولي. أي أن القطاع المالي يستفيد من القروض الناجحة بينما يخسر الجمهور المدخر من القروض الفاشلة.
وبصرف النظر عن الآثار الكارثية على تخصيص رأس المال، تساهم هذه العملية بشكل فاضح في زيادة تركيز الثروة في القطاع المالي، مما يجعله ينمو بشكل طفيلي ومنفصلٍ عن القيمة التي يقدمها للمجتمع. ومع ذلك، يُقال إن هذا الأمر ضرورة سياسية - وصدِّق أو لا تصدق، بل يُقال أيضاً إنه ضرورة اجتماعية – وذلك بسبب طبيعة الادخار والمدفوعات في نظام النقود الحكومية الورقية، وبسبب الدور المزدوج (قد يقول البعض " المشوّش" الذي تلعبه المصارف التجارية القائمة على النقود الحكومية الورقية كجهات مُنشئة للائتمان وفي الوقت ذاته مُستقبِلة للودائع. فالنقد الورقي الحديث، والرقمي منه خصوصاً، لا يُخلق إلا على هيئة دَين، وبما أن النقد المادي أقل كفاءة بكثير كوسيلة للدفع من التحويلات المصرفية الإلكترونية، فإن "النقد" موجود في الغالب كالتزامات مصرفية. أما الرأي الشائع بأن النقود الورقية في المصارف هي بمثابة وديعة أمانة فهو للأسف خاطئ كلياً: هو في الواقع قرض غير مضمون، ومُؤمَّن شكلياً لجميع المقاصد والأغراض من قبل البنك المركزي عبر التهديد (أو ربما الوعد) بفرض ضريبة خفية على المدخرين. ويمكن للمدخرين حماية حصتهم من "القرض الإجباري" هذا من خلال الاحتفاظ بالنقد بأنفسهم. ولكن في هذه الحالة، يتم إقصاؤهم تقريباً من جميع الخدمات المالية الحديثة باستثناء المدفوعات النقدية الشخصية، وتكون قيمة نقودهم معرضة بشكل كامل للتآكل بسبب التضخم، كما لو كانت لا تزال "مودَعة" لدى المصرف نفسه.
وفي كتاب "مشكلة الفائدة"، يصف طارق الديواني العواقب الاجتماعية العبثية لانفجار فقاعات ائتمان النقود الحكومية الورقية على النحو التالي:
"عندما لا يتم إصدار قروض جديدة، تصبح القروض القديمة غير قابلة للسداد. وفي ظل هذه الظروف، يحاول الجميع سداد ديونهم، ولكن ببساطة لا توجد كمية كافية من النقود للقيام بذلك. ولهذا، لا بد أن يفلس شخص واحد على الأقل و"يتم إخراجه من اللعبة". وبهذا، تصبح الحياة صراعاً تنافسياً عدوانياً وذلك كي يتجنب الفرد أن يكون هو ذلك الشخص الذي يُترك واقفاً عندما تتوقف الموسيقى. إن هذه الحالة المستمرة بشكل متجذر ومقلق تؤثر في سياسة الحكومات، وأعمال رجال الأعمال، والحياة اليومية للناس العاديين. وبهذا، يعتمد البقاء الاقتصادي للمجموعات الثلاث إلى حد كبير على استعداد المصرفيين لمنح قروض من نقود تم إنشاؤها حديثاً.
وفي فترات الركود هذه التي تحدث عندما تكون كمية القروض الجديدة غير كافية للسماح بسداد الديون القديمة، تجد الدولة نفسها ملزمة بدفع إعانات الرعاية الاجتماعية للعاطلين عن العمل، وخفض معدلات الضرائب وما إلى ذلك. والنقد الذي تحتاجه الدولة لتغطية هذه النفقات يمكن أن تقوم بإصداره هي بنفسها، أو يمكنها أن تقترضه من المصارف على شكل "أموال بنكية". ما يدعو للاستغراب هو: لماذا تختار الدولة أن تقترض أموالاً تصنّعها المصارف بفائدة، بينما يمكنها ببساطة أن تصنع نقودها الخاصة دون فائدة؟ إنه واحد من الألغاز التي لم نحصل على إجابة لها، ومع ذلك، هذا بالضبط ما يحدث في معظم الأوقات، وفي أغلب دول العالم.
بالطبع، البنوك المركزية بشكلها الحديث، والتي تؤدي الأدوار الموصوفة أعلاه، هي أمر ممكن الحدوث فقط بسبب طبيعة النقود الحكومية الورقية، وطبيعة النقود غير السلعية التي تصدرها المصارف التجارية. فلا توجد قيود مادية على إنشاء الاحتياطيات المصرفية، فتكلفتها فعلياً صفر. ومن المثير للسخرية، أن هذا الأمر غالباً ما يُوصَف، بشكل ساذج وغير دقيق، بأنه "طباعة النقود"، رغم أن هذا الوصف يُبالغ في تقدير التكلفة، لأن "الطباعة" لا تتطلب حتى ورقاً في ظل نظام النقود الرقمية الحكومية الحديثة.
وعلى الرغم من الاختلاف المنطقي، إلا أنه هناك حافز واضح، لا يكاد يختلف من الناحية الوظيفية لاستخدام "سعر الفائدة" (نضعه بين قوسين لأنه في الحقيقة ليس فائدة بالمعنى التقليدي) المعروض على احتياطيات البنك المركزي كأداة سياسية لتسعير الائتمان بشكل مصطنع بأرخص مما قد يفعله السوق إذا ما تم تسعيره من المدخرين. وبالتالي، فإن هذه الأداة تضع في الاعتبار قدرة المساهمين في المصارف على تحمّل الرفع المالي، وتحترم الندرة الحقيقية لرأس المال. والغرض هو "تحفيز" النشاطات الاقتصادية: أي تشجيع توجيه الموارد نحو الاستهلاك قصير المدى لإعطاء انطباع مؤقت بصحة الاقتصاد لأسباب سياسية، بينما يتم في الحقيقة استهلاك رأس المال الحقيقي على حساب الثروة والرفاه طويل الأمد.
في هذا الصدد، البنوك المركزية هي لعنة لمفهوم الوصاية الإسلامي، أو الوكالة، التي نشتق منها كلمة خليفة - وكيل الله على الأرض. ففي الإسلام، يُعتبر كل إنسان خليفة، مؤتمَناً للحفاظ على انسجام الكون وصون الأرض. أما التمويل الورقي، فهو على النقيض من ذلك، يُشجّع على التفكير قصير الأمد، من خلال تضخيم قيمة النقد، وبالتالي، يجبرنا على إساءة توجيه الموارد. فهو يستخدم نماذج رياضية مثل تحليل التدفقات النقدية التي تحسب القيمة الحالية الصافية لمشروع زراعي، على سبيل المثال، على أنها أكثر قيمة إذا ما قمنا بتصحير الأرض في غضون سنوات قليلة، بدلاً من اعتماد طرق زراعة مستدامة على المدى الطويل.[1] ونتيجةً لذلك، نستخدم التقادم في السلع الاستهلاكية والهندسة المعمارية، فنُصمم الأشياء لتُستخدم لفترة قصيرة ثم تُستبدل أو تُهدم، بدلاً من المحافظة عليها وصيانتها.
كل هذا يهيئ بيئة لتحفيز الابتكار، ليس لمراكمة رأس المال على المدى الطويل، بل للمشاركة في ألعاب شبه سياسية لخلق النقود. فبدلاً من تحمل مخاطر ريادة الأعمال الحقيقية في المشاريع التي نريدها، يُحفَّز الأذكياء والطموحون وذوو الدراية المالية على البحث عن طرق للاستفادة من فروقات الأسعار من خلال الوصول المبكّر إلى فقاعات الائتمان المتضخّمة باستمرار — كي لا يتحمّلوا مخاطر حقيقية. هذا الأمر بعيد كل البعد عن مبادئ ريادة الأعمال والاقتصاد الحقيقي ومشاركة المخاطر المتأصلة في المضاربة التي ذكرناها أعلاه. إن النظام المالي الذي يعتمد على خلق النقود أو فرض العائد على النقود يكافئ المصارف، وشركات الاستثمار الخاصة، والمؤسسات الحكومية وذلك بمنحهم قوة شرائية أكثر من عامة الناس. وبهذا، يمكن القول إن أصحاب المليارات جمعوا ثرواتهم ليس من خلال إنشاء سلع أو خدمات قيِّمة، ولكن من خلال خلق النقد نفسه ومن خلال نقل المخاطر إلى الآخرين.[2]
(ب) التمويل الإسلامي المعاصر
ما الذي نقوله هنا؟ هل يعني ذلك أن المصارف الإسلامية وقطاع التمويل الإسلامي المعاصر لا يتبعان الشريعة الإسلامية؟ ليس تماماً. دعنا نقل إن الأمر معقّد.
فهناك فرق بين النظرية والواقع. إن نظرية التمويل الإسلامي تتصور عالماً من القبائل والأعراق المختلفة التي تعيش في وئام، وتتاجر مع بعضها البعض، وتتشارك المعرفة والثقافة والتقنية والأفكار. لكن الواقع الذي تعمل به هذه النظرية يصادف وجود هيمنة عسكرية واقتصادية، لأكثر من قرن، من قبل قوة عالمية واحدة، مما أدى إلى توحيد الممارسات الثقافية، وفي مقدمتها الاقتصاد الليبرالي الحديث الذي يُقدّم "القيمة التبادلية" باعتبارها المعيار الأعلى للتقدّم البشري، ويُعظِّم أرباح المساهمين، ويقوم على استخدام شكل واحد مهيمن من النقد: قابل للطباعة بلا حدود، يتم التلاعب به من قبل قِلّة من الناس، ومُصمَّم للحفاظ على نظام اقتصادي يتميز بانتشار الديون.
فالدولار الأمريكي هو العملة الاحتياطية العالمية الوحيدة اليوم، وبفضل ذلك، يمكن للولايات المتحدة أن تُراكم عجزاً هائلاً في ميزان المدفوعات دون أن تتحمل العواقب المالية التي قد تخضع لها أي دولة أخرى. ولهذا السبب، الطلب المستمر على عملتها هو أمر مؤكد بسبب حاجة بقية العالم للاحتفاظ بعملتها لغرض التجارة الدولية. ففي جميع أنحاء العالم، تحتفظ البنوك المركزية بأصولها الاحتياطية بشكل أساسي على شكل سندات الخزانة الأمريكية، وهو وعد بالسداد يسمح للولايات المتحدة بتمويل هيمنتها. ومن يتحدى هذا الوضع الراهن سيواجه عواقب عسكرية. ولهذا، تستمر هذه الهيمنة الاقتصادية والعسكرية لأن الولايات المتحدة يمكنها ببساطة الاستمرار في طباعة النقود والاقتراض إلى ما لا نهاية.
وإذا رغب أي طرف في الدخول إلى هذه المجال لاقتراح نظام مالي بديل، فلن يتم التسامح مع مثل هذا البديل إلا إذا التزم بالهيمنة الأمريكية ودَعَمَها. لذا، بالتأكيد، يمكن للمصارف الإسلامية استخدام عقود المضاربة أو أي هياكل تعاقدية أخرى لمشاركة المخاطر المستندة إلى كتب الفقه الكلاسيكية، ولكن هذا مسموح به شرط أن تظل مؤسسات قائمة على نظام الاحتياطي الجزئي، وأن تمتلك حسابات احتياطية لدى البنوك المركزية، والتي تعتمد في النهاية على الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، ولها الحق في خلق نقود جديدة من الفراغ من خلال عملية الإقراض الورقي. ولهذا، ليس من المستغرب إذاً أن الشكل الأكثر شيوعاً من العقود المتوافقة مع الشريعة الذي تستخدمه المصارف الإسلامية هو المرابحة السلعية (التي يُشار إليها أحياناً باسم التورُّق)، وهي حيلة قانونية مصممة لمحاكاة أثر القرض بفائدة.
وفقاً لهذا، يمكن رؤية وضع يشبه هذه الظروف في العصور الوسطى، حيث استخدَم الممولون الأوروبيون حيلة قانونية للالتفاف على حظر الكنيسة للربا. فعندما علم هؤلاء أن الإقراض بالفائدة لن يكون مسموحاً، لجؤوا إلى كتابة ثلاثة عقود منفصلة، كل منها على حدة كان ملتزماً بشكل كامل لقوانين الكنيسة، لكن عند جمعها معاً، تُنتج ما يُشبه قرضاً ربوياً صناعياً.
العقد الأول كان استثماراً قام به الممول في مشروع المستفيد، واتفقا به على تقاسم الأرباح. ونَصَّ العقد الثاني على أن الممول سيبيع الأرباح المستقبلية للاستثمار بسعر يُتفق عليه اليوم. وفي العقد الثالث، تم الاتفاق على تأمين الخسائر المحتملة في الاستثمار. والنتيجة النهائية لهذه العقود مجتمعة هي أن المقترِض دفع رسوماً للمقرِض مقابل النقد الذي "استثمره" المقرِض في مشروع المقترض.
لم تستطع الكنيسة رؤية أي ضرر في كل عقد على حدة، وبالتالي، لم تتمكن من تحريم هذه "العقود الثلاثة في واحد"، المعروفة باسم العقد الثلاثي. في النهاية، غضت الكنيسة الطرف عن فرض الفائدة، ولم يعد الممولون يهتمون لأمرها، وتخلوا عن القيام بحيلهم. وبحلول عام 1917، كان الفاتيكان نفسه يستثمر في سندات تحمل فوائد، وأصبح الحظر الكنسي على الفائدة (الربا) يُنظر إليه اليوم وكأنه بقايا ومخلفات من مجتمع بدائي.
إن تركيز القطاع المصرفي الإسلامي المعاصر على الشكل على حساب الجوهر أدى إلى جعل المرابحة السلعية بمثابة النظير الإسلامي للعقد الثلاثي المسيحي. وبهذا، قد تلتزم المصارف الإسلامية بنص القانون، ولكن بتجاهلهم التأثير الأوسع لممارسة آليات النظام الاحتياطي الجزئي، فإنها تفقد روح الشريعة، وهو ما يشير إليه بعض العلماء بمقاصد الشريعة، أي أهداف القانون الإسلامي.
ونحن نقدر أن ما لا يقل عن تسعة أعشار التسهيلات الائتمانية للشركات والأفراد في القطاع المصرفي الإسلامي في جميع أنحاء العالم باتت تستخدم هيكل التورق. ولا عجب أن العملاء قد عبَّروا عن رأيهم بالابتعاد عن هذه المصارف: ففي المملكة المتحدة، نقدر أن ما بين 2% و4% من الأُسر المسلمة لديها حساب مصرفي أو رهن عقاري مع المصرف الإسلامي الوحيد للتجزئة في بريطانيا. قد لا يكون لدى هؤلاء فهماً علمياً لفقه المعاملات، أو للفروقات الدقيقة بين المرابحة والمضاربة، لكنهم يشعرون بشكل فطري بوجود حيلةٍ عندما يرونها.
وجديرٌ بالذكر أنه لا تنطبق مشكلة الشكل على حساب الجوهر على ترتيبات الإقراض المصرفي من خلال التورق فحسب، بل تنطبق أيضاً على أسواق رأس المال. فمن الناحية النظرية، يجب أن تكون الصكوك شهادة استثمار، بحيث تمنح المستثمرين الحق في المشاركة في تدفق المدفوعات من "المقترِض" (سنستخدم هذا المصطلح من الآن فصاعداً، وستعرف لماذا سنفعل ذلك في الأقسام القادمة). فتعمل المصارف الاستثمارية وكأنها مُنظِّمة للصكوك مع عملائها وذلك لتحديد أصل حقيقي أو خدمة تُستخدم كأساس للترتيب المالي.
على سبيل المثال، لنفترض أن شركة ما تسعى لجمع تمويل، وهذه الشركة تمتلك أصولاً عقارية غير مرهونة. في هذه الحالة، يمكن استخدام هذه الأصول كـ "الأساس" للصكوك. ويمكن عادةً تأجير الأصول العقارية، وبالتالي، فإن التمويل الإسلامي الأمثل في هذا السياق سيكون من خلال بيع الأصل وإعادة تأجيره. فببساطة، سيتم نقل العقار الأساسي إلى جهةٍ لها غرض خاص - إما من خلال نقل الملكية القانونية، أو على الأرجح من خلال ترتيب عقد إيجار رئيسي وإيجار فرعي[3] - ثم تأجيره مرة أخرى للشركة. وبالتالي، تكون الشركة قد جمعت الآن التمويل من خلال "بيع" العقار للمستثمرين، وتدفع لهم دخلاً دورياً (الكوبون) بناءً على القيمة الإيجارية للعقار. وعند استحقاق الصكوك، سيتم نقل العقار مرة أخرى إلى الشركة، ويتم سداد قيمة رأس المال لمستثمري الصكوك.
يبدو هذا كله وكأنه اقتصاد حقيقي تجري به مشاركة المخاطر. فهناك أصل حقيقي، وتستفيد الشركة مالياً من هذا الأصل وتديره نيابة عن المستثمرين، ويتحمل المستثمرون المخاطر على هذا الأصل. فحتى الآن، الأمور تسير بشكل جيد.
ولكن هناك مشكلة أساسية في إصدار صكوك أسواق رأس المال المعاصرة: فالشركة التي تجمع رأس المال تدخل في اتفاقية تعهّد بالشراء مع المستثمرين. وهذا العقد الإضافي يحدد بأنه عند استحقاق الصكوك، ستضمن الشركة إعادة شراء الصكوك بقيمتها الاسمية. وبغض النظر عن الهيكل التعاقدي الأساسي - سواء أكان ترتيباً لإدارة الاستثمار مثل المضاربة، أو ترتيب إيجار (يسمى إجارة) - فقد ضمنت الشركة إعادة شراء سندها. فهو يُعدُّ سنداً لأن المخاطر بالنسبة للمستثمرين هنا ليست متعلقة بالأصل المستخدم كأساس للصك، بل هي مخاطرة ائتمانية تتعلق بالجهة نفسها (المُصدِرة)، لا بالأصل المنقول إلى الجهة المصدرة. وبهذا، إنَّ التعهد بالشراء قام بإزالة مخاطر السوق فيما يخص الأصل الأساسي، واستبدلها بمخاطر الائتمان للمقترض نفسه.
ولتعتيم الفارق أكثر بين الصكوك والسندات، يتم قياس تسعير الصكوك ليس بالقيمة السوقية للأصل الأساسي، بل وفقاً لأسعار الفائدة التقليدية، وغالباً ما تُستخدم أسعار المصارف في لندن كمرجع لقيمة الفائدة التي سيتم استخدامها. من الناحية النظرية، ليس هناك مشكلة: فعلماء الشريعة يميلون إلى الاتفاق على أنه يمكن للمرء استخدام صيغة رياضية لحساب سعر السلع طالما أن السلع التي يتم بيعها هي نفسها حلال. المثال الكلاسيكي هو مثال الأخوين: الأخ "أ" يبيع الكحول في متجره، بينما الأخ "ب" في المتجر المجاور يبيع المشروبات الغازية. الأخ الذي يبيع المشروبات الغازية يقيس سعره مقابل أسعار أخيه. لهذا، عندما يرفع الأخ "أ" أسعاره بنسبة 5%، يفعل الأخ "ب" الشيء ذاته. فالمعيار بحد ذاته لا يجعل المعاملة حراماً.
ومع ذلك، فإنه في حالة الصكوك المعاصرة، لا توجد علاقة بين سعر الصكوك والأصل الذي يستند إليه. فعلى سبيل المثال، في عام 2014، أصدرت المملكة المتحدة صكوكاً سيادية بقيمة 200 مليون جنيه إسترليني وذلك من خلال نقل ثلاثة عقارات تملكها في منطقة وايتهول، لندن، إلى جهة إصدار صكوك. بموجب ذلك، حصل المستثمرون فعلياً على ملكية انتفاعية للمباني وأعادوا تأجيرها للحكومة البريطانية. وقد ضمنت الحكومة البريطانية إعادة شراء المباني بالقيمة الاسمية عند استحقاق الصكوك، ودفعت معدل إيجار سنوي قدره 2.036%، "تماشياً مع العائد على السندات الحكومية ذات الاستحقاق المماثل."[4] وهذه القيمة الإيجارية لا تعكس القيمة السوقية الحقيقية لتأجير هذه الممتلكات.
في النهاية، ما دخل فيه المستثمرون هو إصدار سند مضمون مُسعَّر بسعر فائدة تقليدي، دون تحمل أي مخاطرة سوقية متعلقة بالأصل، بل كان هناك فقط مخاطرة ائتمانية تتعلق بالمملكة المتحدة، مع عمليات ورقية شَكْلِية تُعطي انطباعاً بوجود مشاركة في المخاطرة.
وحتى في الحالات التي تكون فيها علاقة معلنة وواضحة وحقيقية بين الصكوك وأداء السوق للأصل، يميل منظمو الصكوك إلى تهميش هذا الأصل بحيث يصبح غير ذي صلة بسداد الصك. ومن الأمثلة الجيدة على ذلك هو استحواذ حكومة دبي في 2005 على شركة تشغيل الموانئ العالمية البريطانية، P&O- وكانت هذه هي المرة الأولى التي تُستخدم فيها الصكوك كأداة لتمويل صفقة استحواذ بمليارات الدولارات.
فقد تم هيكلة الصك ليكون صكاً قابلاً للتحويل- وهي سابقة أخرى في هذا القطاع - أي أنه يمكن تحويلها إلى أسهم الشركة الأساسية. ومن الأمثلة على ذلك، "السند القابل للتبادل والذي يتم كتابته ما قبل الاكتتاب العام"، الذي يدفع معدل فائدة ثابت لحامل السند، ويتم به سداد رأس المال الأصلي عندما يطرح المقترض أسهمه في اكتتاب عام مستقبلي، ويتم استخدام الأسهم المنشأة في الاكتتاب العام الأولي للشركة الأساسية من أجل سداد صكوك الاستحواذ هذه.
إن الجهة الحكومية في دبي التي قامت بعملية الاستحواذ – وهي مؤسسة الموانئ، والجمارك، والمنطقة الحرة، أصدرت صكاً قابلاً للتحويل قبل الطرح العام الأولي، من نوع صكوك مشاركة (بعبارة أخرى، صكوك مبنية على عقد شراكة استثمارية، مماثلة للمضاربة التي شرحناها سابقاً، حيث يكون المُستثمِر والمُستثمَر به شركاء في المشروع، ويتقاسمون المخاطر والعوائد). يبدو هذا الأمر واعداً: فقد وافق المستحوذ على تمويل الاستحواذ على أساس أن حاملي الصكوك يشاركون في نجاح أو فشل الاستحواذ. فإذا نجح الأصل وكان أداؤه جيداً، وتم تنفيذ طرح عام أولي، فسيُكافأ المستثمرون بأسهم في الشركة.
ومع ذلك، فقد كان هناك عقبتان، وكلاهما ظهرتا بسبب المصارف الاستثمارية التي رتّبت التمويل. الأولى كانت أن الصكوك لن تَدفع عائداً (كوبوناً) خلال فترة التمويل، وبدلاً من ذلك ستقوم بمراكمة معدل "الربح". وسيتم تحديد هذا المعدل في وقت إطلاق الصكوك، وبدلاً من أن يتم قياس أداء الأصل الأساسي، سيتم تحديده بناءً على معايير السندات التقليدية (تماماً مثل صكوك المملكة المتحدة السيادية). لذا، إن فشلت شركة "بوابة موانئ دبي العالمية" في طرح شركاتها الأساسية لسداد الصكوك، فسيتعين عليها سداد مبلغ نقدي أكبر لحملة الصكوك، تماماً كما يحدث مع الفائدة على القرض.
أما العقبة الثانية فتتعلق بالطريقة التي سيتم بها سداد رأس المال الأصلي لمستثمري الصكوك. وكما هو معتاد في معاملات الصكوك، فإن الأوراق المالية التي تُصدَر للمستثمرين تُعتبر التزامات "محدودة الرجوع" على المُصدِر. ففي حال تعثرت شركة "بوابة موانئ دبي العالمية" على السداد، لن يكون لحملة الصك الحق بالرجوع إلا على الأصول المحددة في عقد الشراكة الاستثمارية (المشاركة). إضافةً لذلك، يتمتع المستثمرون بحق التعهّد بالشراء، أي وعد مضمون بإعادة شراء الصك. إذا كان هذا التعهد قائماً على أساس القيمة السوقية للأصول الأساسية عند إنهاء الصكوك، لكان الأمر جيداً ومشروعاً، وعندها سيكون المستثمرون قد تحملوا مخاطر السوق بموجب ترتيب شراكة حقيقي. ومع ذلك، لم يكن الأمر كذلك: فبدلاً من ذلك، نصَّت شروط استرداد وحدات الاستثمار في صكوك شركة "بوابة موانئ دبي العالمية" على أن تكون بالقيمة الاسمية الأولية. أي أن المستثمر الذي يشتري الصكوك بـ 100 دولار سيحصل على أسهم بقيمة 100 دولار عند الاستحقاق.
في نهاية المطاف، رغم النية الحسنة لفريق الهيكلة لإنشاء تمويل قائم على تقاسم المخاطر، ومدعوم بالأصول، ويتماشى مع المبادئ الأساسية للتمويل الإسلامي، إلا أن الصك في الواقع تم "تطويعه" ليصبح أداة مالية تُراكِم عائداً لا علاقة له بأي أداء فعلي للأصل، ويتم سداده بالقيمة الاسمية للأصل بغض النظر عن قيمة الأصل في السوق.
لقد استعرضنا حتى الآن كلاً من التورق/المرابحة السلعية كبديل لتمويل القروض، واستعرضنا كذلك الصكوك بصفتها أداة مالية تشبه السندات في أسواق رأس المال. إنَّ المنتَج المالي الأول تهيمن عليه المصارف الإسلامية، والمنتج الثاني تهيمن عليه المصارف الاستثمارية العالمية. وفي كلتا الحالتين، أدت قيود التمويل الورقي إلى نشوء قطاع تمويل إسلامي يركز على الشكل دون الجوهر. ورغم أن نص الشريعة تم الالتزام به في تصميم العقود القانونية المباحة، إلا أن روح الشريعة لم تُحترم.
إن الغرض من وجود المصارف القائمة على النقود الحكومية الورقية هو تقديم القروض، وفي هذه العملية، يتم تصنيع نقود جديدة. قد لا تكون هذه الأسس الأخلاقية الزائفة هي مسؤولية المصارف الإسلامية، رغم تغطيتها بعقود تبدو "حلالاً" أو متوافقة مع الشريعة، لكنها بكل تأكيد لا/لم تعالج المشكلة الجوهرية.
إذا أراد المرء إنهاء قدرة المصارف على خلق النقد الذي يتم من العدم فقط من خلال منح القروض، وبالتالي، إجبار الممولين على تحسين قراراتهم الاستثمارية، ليصبحوا شركاء مع عملائهم، وليتم توزيع المخاطر بشكل أكثر توازناً في جميع أنحاء الاقتصاد، فعندئذٍ، يجب أن يتغير نوع النقد نفسه. ولهذا، نحن بحاجة إلى شكل من أشكال النقد بحيث يمكن إنشاؤه فقط من خلال بذل الجهد، ويكون نادراً ومحدوداً، ولا يمكن التلاعب به من قبل مجموعة صغيرة من الناس أو الحكومات، وسيكون هذا النقد أداة لخدمة الاقتصاد الحقيقي لا سيداً عليه. وسيعمل هذا النقد، كما لاحظ العالِم الشهير من القرن الثاني عشر أبو حامد محمد بن محمد الغزالي - المعروف أكثر باسم الغزالي - "كنقد يتم تداوله بين الناس، ويكون حَكَماً عادلاً بين السلع المختلفة، ويكون وسيطاً للحصول على أشياء أخرى."[5]
[1] انظر، على سبيل المثال: كتاب مشكلة الفائدة لطارق الديواني (شركة Kreatoc Ltd، 2010)، الصفحات 13-16،
وهو مبني على فكرة مايكل ليبتون، جامعة ساسكس، 1992.
[2] المصطلح الشائع في أوساط البيتكوين (وكذلك بين أنصار الذهب) يشير إلى أثر كانتيلون، نسبةً إلى ريتشارد كانتيلون، الذي يُعتقد على نطاق واسع أنه أول اقتصادي حلّل فكرة أن الأموال الجديدة المصدَرة لا تتوزع بالتساوي عبر الزمان والمكان، وبالتالي، فإن من يستلمها أولاً في دورة التداول يستفيد على حساب من يستلمها لاحقاً.
[3] إن هياكل التأجير الرئيسي/الفرعي أكثر شيوعاً من البيع الكلي الذي يتم بنقل الملكية القانونية، وذلك بسبب الضرائب العقابية المفروضة على نقل الملكية.
[4] أعلن المدراء الرئيسيون المشاركون أن توجيه التسعير قد تم تضييقه ليصبح مساوياً تماماً لعائد السندات الحكومية البريطانية (0 نقطة أساس).
[5] إحياء العلوم، للإمام الغزالي، الجزء الرابع (1997)، صـ 348، كما ورد في اقتباس عن العثماني.
الجزء الثالث: البيتكوين حلال
(أ) آلية عمل البيتكوين
الوقت سلعة نادرة وثمينة، ويؤمن المسلمون بضرورة الاستفادة من الوقت واستغلاله بطريقة تجلب البركة إلى حياتهم. ومن مظاهر هذه البركة أنهم يكونون قادرين على إنجاز أشياء كثيرة في فترة زمنية قصيرة. فهم يعتقدون أن البركة في الوقت، على سبيل المثال، تُكتسب من خلال اتّباع سنة النبي عليه الصلاة والسلام في "استغلال ساعات الصباح" (أن يكونوا منتجين من أول النهار)، وتجنب المعاصي، وقضاء الوقت مع العائلة، ومداومة أعمال الشكر والامتنان، والتلاوة اليومية للقرآن، وذكر الله في روتينهم اليومي، ومصاحبة الأشخاص المنتجين. كل هذه الأعمال تُعتبر أعمالاً نافعة لحياة طيبة.
والنظام النقدي الذي يحترم الندرة الطبيعية للوقت، وينقل حوافزنا بعيداً عن الاقتراض، والإنفاق، والاستهلاك نحو الادخار والاستثمار لمستقبلنا هو نظام له خصائص النقد السليم، كما وصفنا سابقاً.
وقد فضل المسلمون، تقليدياً، الذهب بصفته نقداً سليماً. فهم يقدرون طبيعته المدعومة بالسلع الحقيقية، ويقدرون ندرته. فمن خلال الحياة في ظل معيار الدينار الذهبي لمدة 700 عام خلال العصر الذهبي الإسلامي، كان للمسلمين الوقت والمساحة للارتقاء في مساعيهم. بكلمات أخرى، كان لديهم بركة في وقتهم. إن مساهمات المسلمين في الرياضيات، والفلسفة، والطب، وعلم الفلك، والهندسة، وحتى التجارة خلال هذه الفترة يتم تجاهلها في كثير من الأحيان، ولكن يمكن القول، لأسباب واضحة، أن التقدم الأوروبي بعد عصر التنوير مدين لهذه الحضارة التي كانت مجاورة له.
إذا تأملنا فترات التاريخ البشري التي كان فيها الذهب عملة عالمية شائعة (روما في أوجها، وبيزنطة، والعصر الذهبي الإسلامي، والنصف الثاني من القرن التاسع عشر)، فسنجد أيضاً أن التجارة كانت عابرة للحدود وسلسة، مع وجود الحد الأدنى من التعريفات الجمركية والقيود. فقد كان هناك فترات من الاستقرار السياسي، وكذلك التقدم العلمي والإبداعي.
فالنقود اللامركزية، غير القائمة على النقود الحكومية الورقية التي تكون فيها نسبة المخزون إلى التدفق عالية، والتي لا يمكن التلاعب بها أو التحكم بها من قبل مجموعة صغيرة من الناس، هي نقود سليمة تؤدي إلى نشوء تفضيل زمني منخفض، مما يؤدي بدوره إلى تقدم البشرية. وبهذا، تتوفر للبشرية المساحة والوقت للارتقاء بمساعيهم.
وبحديثنا عن الذهب، فهو يعاني من مخاطر المركزية والرقابة. فهو لا يزال نادراً ومحدوداً، وبالتالي، فهو مقاوم للتضخم، ولكنه يعاني من عيوب عملية. فلا يمكن نقله أو تقسيمه بسهولة، ويستلزم منا بعض التكاليف لتخزينه وتأمينه، ولا يمكن إرساله بشكل فوري لجهاتٍ في الطرف الآخر من العالم.
أما البيتكوين فيتمتع بجميع مزايا الذهب، وبه القليل من عيوبه. فله نسبة مرتفعة من المخزون إلى التدفق، ويمكن الاحتفاظ به ونقله إلكترونياً، كما يمكن إرساله وعلى الفور عبر مسافات شاسعة، وهو سهل التأمين، ومقاوم للرقابة، ولامركزي. قد يعترض البعض بأن البيتكوين يفتقر إلى الملموسية، وأن هذا مطلب من مطالب الشريعة، مشيرين إلى الحديث الشهير:
"التقى عبادة بن الصامت ومعاوية في موضع على الطريق. فقال عبادة: "إني سمعتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ ينهى عن بيعِ الذهبِ بالذهبِ، والفضةِ بالفضةِ، والبُرِّ بالبُرِّ، والشعيرِ بالشعيرِ، والتمرِ بالتمرِ، والملحِ بالملحِ، إلا سواءً بسواءٍ عيناً بعينٍ، فمن زاد أو ازداد فقد أَرْبَى"
أولئك الذين يزعمون بأن الحديث يُجيز فقط أنواعاً معينة من النقود المدعومة بالسلع الحقيقية، قد أخطؤوا الفهم: فالنهي في الحديث موجه تحديداً ضد الربا، أي أخذ المال مقابل المال، وضد الدفع المؤجل للعملة (العقود الآجلة). إن هذه السلع الستة هي مجرد أمثلة على العملة؛ لكنها ليست بالضرورة أمثلة مثالية (فأربعة منها سريعة التلف!). يتطلب الفقه أن يكون للنقد، كحد أدنى، خصائص الثروة، وقيمة قانونية (أو وفقاً لبعض العلماء، توافقاً اجتماعياً)، والقدرة على تبادله مقابل السلع والخدمات.[1] البيتكوين يتمتع بكل هذه الخصائص، وبالإضافة إلى ذلك، فهو أيضاً له صفات النقد السليم تماماً كما كان الذهب نقداً سليماً يوماً ما. لذلك، يمكن القول إن البيتكوين له صفات تتوافق مع الشريعة الإسلامية بأكثر من الأموال التقليدية المستخدمة في العصر الذهبي الإسلامي، لأنه يعزز بدرجة أكبر من مفهوم التفضيل الزمني المنخفض.
أما بالنسبة لمسألة ملموسيته أو طبيعته كسلعة، ففعلياً له ملموسية، بل وأكثر من النقود الرقمية التي نستخدمها اليوم، والتي نعتبرها شيئاً "حقيقياً"، علماً أنها موجودة على شكل أرقام في الحواسيب. فغياب الجوهر المادي لا يعني أن الشيء يصبح "خيالياً" بالضرورة.
يمكن للمرء أن يجادل بأن للبيتكوين نوع من الجوهر المادي بسبب آلية إصداره القائمة على إثبات العمل في التعدين. ورغم أن هذه الآلية قد تبدو نظرية ومبهمة، إلا أنها تربط البيتكوين بالعالم المادي بشكل أقوى من أي أصل رقمي آخر يمكن تصوره. بل ويمكن للمرء القول أن آلية إثبات العمل عند إقرانها مع معامل ضبط الصعوبة – وهي المكونات الرئيسية للتعدين، وبالتالي، زيادة أمن الشبكة، مما يؤدي في النهاية لظهور اللامركزية – يمكن حينها القول إن هذا هو الابتكار بحد ذاته في البيتكوين. وهذا الأمر هو ما أنهى معضلة الإنفاق المزدوج، وتغَّلب على النسخ غير المكلف للمعلومات الرقمية، والتي من شأنها أن تجعل فكرة "الندرة الرقمية" أمراً مستحيلاً، لكن هذا الأمر أصبح ممكناً مع البيتكوين بوجود هذا الابداع التقني.
وفي حين يتم وصف هذه العملية بشكل متكرر بأنها تجعل البيتكوين "مدعوماً بالطاقة"، إلا أننا نرى أن هذه صياغة مضللة هدفها تشتيت الانتباه. فالإشارة إلى "النقود" على أنها "مدعومة بـ [سلعة ما]" هي فعلياً مصطلحات تستخدمها المصارف، وتفترض أن النقود المعنية هي نوع من الوسائط الائتمانية. لكن البيتكوين في حد ذاته هو السلعة. وأهمية الطاقة تكمن في أنها تربط البيتكوين بالعالم المادي، بحيث يمكن تحقيق الجانب المرغوب به لهذا النقد الجديد: بمعنى أن تكلفة إنتاج البيتكوين، والتي تتحقق في الغالب عبر الاستهلاك المكلف للطاقة، هي تكلفة قريبة جداً من قيمته السوقية. لن نشرح كافة التفاصيل هنا، ولكن معامل ضبط وتعديل الصعوبة (المشار إليه أعلاه) هو بصراحة ابتكار عبقري فريد من نوعه، وقد أوجد خاصية اقتصادية غير مسبوقة في التاريخ ولا يمكن تحقيقها بأي وسيلة أخرى: فهذا التوازن بين التكلفة والقيمة لم ينشأ بمحض الصدفة، ولا يتم ضبطه من قبل البشر، ولكنه سيكون دائماً صحيحاً، بحيث يمكن معرفة كمية البيتكوين الموجودة عند أي نقطة في المستقبل، إلى الأبد. وبهذا، إن تحقيق الربح من صك العملة عند إصدار البيتكوين هو أمر مستحيل من حيث الأساس، مع وجود بعض التحفّظات الطفيفة.
وعلى العكس من كونه "هدراً للطاقة" كما يتم تصويره غالباً، فهناك حجتان قويتان تدعمان البيتكوين بكونه "صديق للبيئة" – فيما قد نسميه الحجج "الصناعية" و"النفسية".
الحجة الصناعية هي الاعتراف بأن تعدين البيتكوين لا يمكن أن يتم بشكل مستدام إلا عند الوصول إلى أرخص مصادر الطاقة في العالم. وأما القول بأن تعدين البيتكوين "يحول الطاقة" من المستشفيات، ودور الأيتام، وما شابه، هو قول يتسم بالجهل. فأي مستخدم للطاقة يرى نفعاً لمشروعه سيقوم بدفع سعر أعلى لها، وبهذا يمكن له نظرياً إقصاء المعدّنين تلقائياً. وفي الحقيقة، إذا فُهِم الأمر بشكل دقيق، فيبدو من الحتمي أن التكلفة الهامشية للطاقة التي يصبح التعدين عندها مجدياً ستتجه نحو الصفر في المستقبل القريب. وهذا يعني أن التعدين سيستهلك فقط الطاقة التي كانت ستُهدر بخلاف ذلك، سواء تَمثَّل ذلك بغاز الميثان المحترق أثناء النقل، أو الطاقة الكهرومائية أو الرياح أو الطاقة الشمسية التي لا يُستفاد منها بسبب تقطّع الطلب، أو التسخين غير المستغل للهواء أو الماء، أو حتى مجموعة من عمليات التسخين الصناعي. إن إزالة الحاجة إلى وجود بنية تحتية لنقل الكهرباء من أجل جعل مصادر الطاقة المعزولة قابلة للاستخدام، يُؤدي إلى زيادة كبيرة في كفاءة تطوير موارد الطاقة.
أما الحجة النفسية فهي الاعتراف بأن التفضيل الزمني المرتفع يؤدي بشكل طبيعي إلى تجاهل البيئة. ويمكن أن يتجلى هذا على وجه التحديد في الاستهلاك المعتاد للمواد الملوِّثة للبيئة ذات الاستخدام الواحد بدلاً من استخدام مواد أكثر قوة ومتانة، ومواد يمكن إعادة استخدامها، أو استعمال موادٍ رديئة لتشييد العمران لتتطلب منا هدمها بعد 30 عاماً بدلاً من أن تصمد 300 عام. أو قد نلاحظ شكلاً أكثر عمومية من الأنانية القسرية والانشغال بالحاضر، مما يجعل مفاهيم مجردة مثل "البيئة" تحظى بأولوية منخفضة جداً مقارنة بما كانت ستحظى به لو أُتيح للناس الوقت والمساحة للتفكير في المستقبل وفي عواقب قراراتهم. فمن خلال ضمان القدرة على الادخار، وتقليل حالة عدم اليقين، يمكن القول إن البيتكوين يتوافق بشكل كبير مع المفهوم الإسلامي للخلافة (الوصاية على الكوكب).
إن إنشاء البيتكوين من خلال آلية إثبات العمل – فيما أَطلق عليه "نِك زابو" بذكاء "التكلفة غير القابلة للتزوير"[2] - يتناقض بشكل صارخ مع الإنشاء غير المكلف للنقود الحكومية الورقية من العدم عبر الديون. وحتى بنك إنجلترا نفسه يعترف علناً بأن أكثر من 97% من جميع النقود في الاقتصاد موجودة على شكل ودائع مصرفية، والمصارف تنشئ هذه الودائع ببساطة عن طريق تقديم القروض:
"في الاقتصاد المعاصر، معظم النقود تكون على شكل ودائع مصرفية. ولكن كيفية إنشاء هذه الودائع غالباً ما يُساء فهمها: الطريقة الأساسية هي أن تقوم المصارف التجارية بمنح القروض. وكلما قدم المصرف قرضاً، فإنه ينشئ في الوقت ذاته وديعة مطابقة له في حساب المقترض، وبالتالي، يكون قد أنشأ نقوداً جديدة."[3]
ولهذا، إن النقود الورقية بطبيعتها ربوية. أما البيتكوين، فلا يُخلَق من خلال الديون؛ بل هو تجسيدٌ للتكلفة والعمل المنجَز. وإذا ما حل محل النقود الورقية، فلن تتمكن المصارف من خلقه وإنشائه من العدم، ولن تستطيع تضخيم قيمة النقود، وبهذا، لن يكون البيتكوين مضاداً للربا فحسب، بل سيكون أيضاً مضاداً للتضخم.
وثمة جانب إسلامي أخير للبيتكوين - وهو متعلقٌ بمسألة الضوابط والتوازنات على سلطة الحكومة. فالتقليد العلمي الإسلامي لطالما أكد على ضرورة فصل الحاكم عن القانون.[4] رُوي عن الإمام أبو حنيفة أنه رفض تولي القضاء الذي عرضه عليه والي الكوفة، وبرر ذلك بقوله:
"لو أرادني أن أعد له أبواب مسجد واسط لم أدخل في ذلك، فكيف وهو يريد مني أن يُكتب دمُ رجل يُضرب عنقُه وأختم أنا على ذلك الكتاب، فوالله لا أدخل في ذلك أبداً!"[5]
وبالمثل، يتمسك التراث الإسلامي بفكرة أن استبداد الحاكم يُقيَّد بمنع احتكاره للاقتصاد، وأنه يجب الفصل بين الحاكم والنقود. يجادل بعض المسلمين اليوم بأن البيتكوين لا يمكن أن يكون إسلامياً حيث أنه لم يتم الاعتراف به كنقد من قبل الدول، أو لأن الدول لا تضمنه أو "تدعمه". ولكن جدير بالذكر أنه لا يوجد دليل شرعي على أن الدولة يجب أن تُقر بالنقد ليكون حلالاً.
بالتأكيد، كان هناك سوابق في التاريخ الإسلامي تشير إلى أن بعض الدول أو الحكام كانوا يديرون دور صك العملات للتحقق من صحة العملات ثنائية المعدن كالذهب والفضة. لكن بما أن البيتكوين يُعرَّف بوحدات ذرية قابلة للتحقق رياضياً،[6] فذلك يعني أنه لا حاجة لوجود كيان مركزي لتوثيق صحته، وبهذا، إن الحاجة إلى وجود دار صك مملوكة للدولة لم تعد قائمة. وللدقة، يتطلب الاقتصاد الإسلامي بشكل واضح أن تكون الأسواق حرة في تحديد مستويات الأسعار وفقاً للعرض والطلب، لا أن يتم تحديدها مركزياً من قبل الدولة. وهذه النقطة الأخيرة تفاجئ الكثير من المسلمين، على الرغم من وجود سابقة واضحة.
بعد فترة وجيزة من تأسيس الدولة في المدينة المنورة، تَسبَّبَ ارتفاع أسعار المواد الغذائية في اشتداد مجاعة الناس. وتم تقديم التماس للنبي كي يضع سقفاً لأسعار السلع الزراعية، ولكن خلافاً للعُرف المعمول به، وخلافاً لما هو متوقَّع من رجل الرحمة والرأفة، رفض النبي، عليه الصلاة والسلام، تحديد الأسعار. وبلغت المعارضة الشعبية لموقفه أن الناس عينوا وفداً خاصاً لمحاولة إقناعه بالعدول عن قراره. فاعتزلهم النبي، عليه الصلاة والسلام، كما كانت عادته، ليدعو الله ويطلب الهداية والتوجيه. ومع أنه دعا أن يُؤتى سلطةً لتسعير الأسواق، إلا أن الدعاء لم يُستجب.[7] إن رده هذا رسّخ مفهوماً ثورياً آنذاك حول تحرير الأسعار، وهو المفهوم الذي شكّل ملامح العصر الذهبي الإسلامي، ووضع الأسعار في يد الله لا في يد الحاكم، وشجع على ثقافة تجارية قائمة على تحمل المخاطر وروح المبادرة.
"قال الناس: يا رسول الله سَعِّر لنا، فقال: إن الله هو المسعر القابض الباسط الرزاق وإني لأرجو أن ألقى ربي وليس أحد منكم يطلبني بمظلمة في دم ولا مال."[8]
لاحظ كلمة "مظلمة" هنا. إن التلاعب بالنقد يؤدي إلى الظلم. فالنقد أداة أساسية للسوق، تماماً كما شرح الغزالي. ونظراً لطبيعة البيتكوين اللامركزية، وانفصاله عن الدولة، فهذا يعني أنه مقاوم للتلاعب ومقاوم للرقابة. ويمكن للناس استخدامه أو عدم استخدامه كما يشاؤون. في المقابل، لا يمكن منعهم من استخدامه بناءً على قرارٍ من الحاكم. كما أن الحاكم لا يحدد عرضه أو سعره بالنسبة للسلع الأخرى. واليوم، يُستخدم البيتكوين في الاقتصادات المضطربة ومناطق الصراع حول العالم بوصفه "نقد الحرية"، نقداً أخلاقياً يخدم الجميع، لا نخبة محدودة. ولا يحتاج أن يُمرر عبر قنوات القطاع المصرفي القائم على النقود الورقية، والتي تسيطر عليها قوى أجنبية. وقيمته موجودة بيد الله.
(ب) الإسلام والنقد السليم
من الصعب أحياناً تحديد ماهية التمويل الإسلامي خاصةً إذا كانت نقطة انطلاقنا للمقارنة نابعة من تفكيرنا بالتمويل الحكومي الورقي، وذلك لأن فكرة المقارنة بينهما لا معنى لها. فالتمويل الإسلامي لا يقوم على قائمة تتضمن وجود ما هو مسموح وما هو ممنوع؛ بل هو إطار يُمكّننا من استنتاج ما يجب وما لا يجب السماح به بناءً على مبادئ أخلاقية واضحة. وهذه المبادئ ليست ذاتية شخصية أو اعتباطية. إضافة لذلك، نحن نعتقد أن هذه المبادئ تتماشى مع البيتكوين بشكل رائع، ولا يجب أن يُدهشنا ذلك إذا علمنا أن أصل هذه المبادئ قد وُضع في زمن كان فيه الذهب هو النقد السائد، حين بدأت ملامح التمويل الإسلامي بالتشكل.
فبحلول عام 622 ميلادية، أصبح النبي محمد، صلى الله عليه وسلم، أكثر من مجرد مصدر إزعاج للعائلات المتنفذة في مكة. فالدين الذي دعا إليه لم يكن مجرد تهديد لمعتقداتهم الشركية الوثنية - بل تجاوز ذلك ليهدد أيضاً سيطرتهم على الأعمال الاقتصادية التي تُدرُّ ربحاً عليهم من أعمال الحج المرتبطة بأصنام الكعبة. وقد تسببت دعوته في نقمة الطبقة الحاكمة في مكة، وتمت مقاطعته تجاريا، وخسر أعماله التي كانت ناجحة، ثم نجا من محاولة اغتيال، وهاجر إلى المدينة ليكون "لاجئاً فقيراً".
عند وصوله، كان أول عملٍ قام به هو بناء مسجد، والثاني هو تأسيس سوق، ثم وضع فيه قواعد التجارة العادلة، وقد أسهمت سياساته الاقتصادية في تحقيق توازن بين خلق الثروة والتماسك الاجتماعي، وتعزيز ريادة الأعمال، والأسواق الحرة، والضرائب الصفرية، والشفافية، والمنافسة، وحماية المستهلك، والتوزيع العادل للثروة. وفي غضون عقد واحد من الزمان، لم يكن دين الإسلام قد ترسخ في الجزيرة العربية فحسب، بل ترسخ معه أيضاً نموذج المدينة الاقتصادي. ربما كانت واقعية الدين وطابعه العملي – بمعنى أن خلق الثروة الأخلاقية هو في حد ذاته عملاً من أعمال العبادة – هي من ساعد الإسلام على النمو والازدهار. وفي غضون قرن من الزمان، توسع هذا النموذج نفسه عبر طريق الحرير من الصين إلى شمال إفريقيا والبحر الأبيض المتوسط.
وقد قام الفقهاء في السنوات التي تلت وفاة النبي، عليه الصلاة والسلام، بتدوين العديد من المبادئ الاقتصادية التي تم تأسيسها لأول مرة في المدينة المنورة، وابتكروا أُطراً تنظيمية، وأدوات مالية أصبحت هي شريان الحياة للعصر الذهبي الإسلامي. وكل ما سيتم ذكره الآن نشأ بفضل وجود نظام نقدي موحّد: وهو الدينار الذهبي. وعلى سبيل المثال: الوقفيات للمؤسسات التعليمية، وخزائن الدولة للمعاشات التقاعدية والخدمات الاجتماعية، وبيوت التجارة، وشركات رأس المال الاستثماري التي أُنشئت عند مفترقات طريق الحرير، وشيكات المسافرين للتسوق بدون نقد، وفروع القطاع المصرفي، والترتيبات المالية العابرة للحدود.
جدير بالذكر أن هذا المعيار النقدي لم ينشأ بين عشية وضحاها. فقد سيطرت عملة "الصوليدوس" (العملة الذهبية البيزنطية) على المعروض النقدي في الإقليم بسبب قوة معيار الذهب البيزنطي، وبسبب الطبيعة البدائية للعملات العربية. وعلى الرغم من ازدهار الأسواق، إلا أن غياب العملات المحلية قد أعاق التجارة العابرة للحدود، وزاد من تكاليف المعاملات. وقد قام الحكام الإسلاميون المتعاقبون بعد وفاة النبي، تدريجياً، بتطوير عملة إسلامية أصلية.
في البداية، طُرحت أفكار بديلة لأشكال من النقد غير السبائك، بما في ذلك استخدام جلود الإبل كوسيلة نقدية. ولكن في النهاية، أدرك الحكام أنهم بحاجة إلى عملة صعبة أثبتت نفسها تاريخياً، ويجب أن تكون هذه العملة قابلة للبيع عبر الزمان والمكان. وبهذا، صك الحكام الدينار لمنافسة عملة "الصوليدوس"، وبهذا، انتهت الهيمنة النقدية البيزنطية.
يصف المؤرخ "بينديكت كولر" ظهور الدينار ببعض التفاصيل، وخلص إلى ما يلي:
"مع توسع القاعدة النقدية، يتوسع معها الاقتصاد أيضاً. وقد انتشرت تداعيات العملة الجديدة عبر الإمبراطورية الإسلامية وخارجها، مما عزز التجارة الاقليمية والقارية على حد سواء. وقد تم تداول الدنانير الإسلامية في جميع أنحاء أوروبا، واستخدمت كوسيلة للدفع في إنجلترا، وبحر البلطيق، وأيضاً من قبل خزانة الفاتيكان. وبهذا، وضعت العملات الذهبية القوة الشرائية في أيدي المسلمين، وساعدت في تطوير سوق شملت الأراضي الإسلامية والمسيحية..."[9]
وبناء على ذلك، لا نرى أن من المبالغة القول إن التمويل الإسلامي هو:"التمويل كما سيكون عليه في ظل وجود نقد سليم". فالاعتبار الأخلاقي الأساسي الذي تفرضه النقود السليمة يمكن تجسيده بالمسؤولية. فلا يوجد مقرض الملاذ الأخير الذي سينقذك؛ ولا يوجد خسائر اجتماعية ومكاسب خاصة؛ ولا خلق ائتمان من العدم، بل عليك أن تتحمل مسؤولية أفعالك، وتقدم قيمة حقيقية في العالم.
إن النقد السليم، من الناحية النفسية ناهيك عن الناحية الأخلاقية، يشجع على التفكير طويل المدى. فهو يُحرر صاحبه من حالة الذعر والأنانية المادية المرتبطة بدوامة الاستعباد بالديون، ويُتيح له أن يهتم بقضايا أسمى وأوسع. ربما أهم هذه القضايا هو رعاية مصالح الآخرين. من الواضح أن هذا الأمر يتجاوز المجال المالي، ويوفر الدعم لجميع المبادئ الأخلاقية التي يقوم عليها التمويل الإسلامي، وروح القانون (الشريعة) التي يُحكم بها عليه.
(ج) تمويل البيتكوين وأسواق رأس المال
لا تزال "أسواق رأس المال القائمة على البيتكوين" في بداياتها، لكننا سعداء برؤية مؤشرات أولية على وجود تمويل تجاري متوافق مع الشريعة يقوم بالبناء على خصائص البيتكوين الفريدة كنقد. وكما هو مذكور أعلاه، فإن التوافق مع التمويل الإسلامي غالباً ما يكون عرضياً تماماً ولكنه يحدث تلقائياً من كون البيتكوين نقداً صعباً. النقطة الأساسية هي فصل الودائع عن الاستثمار، بحيث يتوقف "خلق الائتمان" الذي يُعتبر امتيازاً استثنائياً في نظام النقود الحكومية الورقية. وبهذا، فالمُدّخر سيدّخر، والمستثمر سيستثمر. على هذا النحو، "المصارف" ستأخذ وتدير الودائع، أو ستكون كمؤسسات لإدارة الأصول، تستثمر برؤوس أموال حقيقية أو ما يشبهها، وتشارك المخاطر مع رواد الأعمال الذين تدعمهم وتمولهم. وبما أنه سينعدم وجود حافز لـِ "مطاردة العائد" واستغلال التوسع الائتماني السياسي المصطنع، فإنه يمكن فصل هذه الوظائف عن بعضها بشكل واضح، بل ويمكن إلغاء الوساطة من القطاع المالي كلياً.
بشكل أولي، وللنظر في الفرص المحتملة لاستثمار رأس المال سنوضح أمراً تقنياً يُقارن بين نظام مدفوعات البيتكوين والمدفوعات القائمة على النقود الورقية. فالمدفوعات الورقية، إلى حد كبير، تُبنى على علاقات ائتمانية متعددة الأطراف بين المصارف التجارية، ولكنها في النهاية، تنتهي بالبنوك المركزية. وهذه سجلات خاصة قائمة على الائتمان، ما يؤدي إلى مزيج غريب من القدرة على تعديل هذه السجلات بسهولة شديدة وزهيدة، لكنها تترافق مع مخاطر ائتمانية عالية للغاية، لضمان أن يتم كل تعديل بطريقة "ذرية" بمعنى: المصرف أ يضبط رصيداً واحداً لأعلى وآخر لأسفل شرط أن يقوم المصرف ب بضبط الأرصدة المعادلة لأسفل ولأعلى، على التوالي. وقد تناول الديواني هذه المفارقة في كتابه "مشكلة الفائدة":
"من الضروري أن نُدرك أن إصدار صك دَين أو إصدار نقود من قبل الدولة لا يستلزم بالضرورة أن تُفرَض الفائدة. على سبيل المثال، التجار الذين يشترون ويبيعون من بعضهم البعض لديهم الحرية الكاملة في استخدام صكوك الدين التي لا تحمل أي رسوم فائدة حتى مع وجود بعض التأخير في السداد. وبالمثل، الذهب لا يحتاج إلى فائدة ليُوجَد، فهو لا يحتاج أن يُقترض ليُوجد، بل هو موجود بحد ذاته. وبالمثل، فهي لا تحتاج إلى أن تحمل فائدة لكي تُصبح موجودة، بل تُصبح كذلك بمجرد طباعتها. لكن على عكس ذلك، إن النقود المصرفية التي تُسجَّل كرصيد في الحساب، إنها تنشأ من خلال عملية الإقراض، وبالتالي، وجودها مشروط بوجود الفائدة."
من ناحية أخرى، فالبيتكوين هو حقوق ملكية خالصة. فهو ليس ديناً على أحد، كما أنه غير "مدعوم" من أي جهة لأنه لا يتطلب أي دعم، وكما قال "لويس"، الذي استشهدنا بكلامه به في مرجع سابق، البيتكوين هو نقد وعملة. وهذا عكس الاعتبارات المذكورة سابقاً. فمن ناحية، إن "سجل المعاملات" الوحيد الهام هو سجل عام – فيما يُعرف باسم البلوكشين (سلسلة الكتل) - ومن أجل ضمان عدم حاجته إلى إذن من أحد ولضمان لا مركزيته، فإن تحديثه مكلف. وذلك على عكس سجل المعاملات الخاصة بالمصارف، التي يمكن تحريرها من جانب طرف واحدٍ وحيد وبتكلفة صفرية، ولهذا، إن رسوم المعاملات التراكمية التي يدفعها مستخدمو شبكة البيتكوين هي ما يُمكّن آلية إثبات العمل من التحكم في آلية التوافق التي تضبط تحديث سجل المعاملات. من ناحية أخرى، فجميع مدفوعات البيتكوين هي خصميات مباشرة. ومن خلال تسخير خصائص التشفير المُدمَجة بالنظام، يتم تنفيذ المعاملات بشكل ذرّي حقيقي ( أي إمّا أن تتم الصفقة بأكملها أو لا تتم مطلقاً).
وقد أدى هذا إلى ظهور العديد من شبكات الدفع، المتوافقة فيما بينها، المبنية فوق شبكة البيتكوين، وأكثرها نضجاً وتطوراً هي شبكة البرق، ولكن هناك بروتوكولات أحدث مثل "Ark" و"statechains" وعدد آخر من مقترحات Zero Knowledge Rollup الموجودة حالياً في مراحل مختلفة من التصميم، والتطوير، والتطبيق. كما يجب أيضاً النظر في أنظمة إصدار الأصول المبنية على مجموعة معاملات UTXO الخاصة بالبيتكوين، والتي تستفيد من أمان الشبكة، مثل RGB وTaproot Assets، إلى الحد الذي تُمكّن من تسهيل المدفوعات بصورة ذرية. لن نتطرق إلى الفروقات التقنية بين هذه البروتوكولات في هذه الورقة، لكن يمكن القول إن جميعها تتشابه في الخصائص الفنية العامة بدرجة كافية لنصل إلى نتائج اقتصادية مماثلة، وهذا ما يهمنا وما نناقشه.[10] وهذه الخصائص التقنية تتمثل في: 1- مدفوعات تعتمد فقط على الدين، وتتطلب تجميد رأس المال وتأجيل تسوية الأرصدة، وتعتمد على مزيج من خصائص التشفير الأصلية للبيتكوين والحوافز الاقتصادية للجهات الفاعلة. 2- ذرّية المدفوعات، الناتجة عن الخصائص نفسها.
بلغة أبسط (وأقرب للغة المالية)، وفي جميع الحالات، إن هذا تقريباً يعني الآتي: بدلاً من أن تعتمد تسهيلات الدفع على ائتمان ثنائي الأطراف يتم خلقه من العدم، ويقوم على الربا بطبيعته — وهو ما لا يمكن تطبيقه من حيث المبدأ إلا عبر مؤسسات خاصة، فإنه يمكن الآن تقديم هذه الخدمات والمنافسة عليها في سوق حرة، من قِبل أي شخص مستعد لتوفير رأس المال اللازم. ويمكن أن يتم هذا من خلال تمويل "عقدة البرق" وفتح القنوات لزيادة سعة الاتصال العامة والسيولة في الشبكة، أو من خلال تمويل مزود خدمة Ark لتغطية مجموع المعاملات ضمن فترة زمنية معينة.
على الرغم من أن الأمر قد يبدو ظاهرياً كأنه "تحقيق ربح من المال"، إلا أننا نرى أن هذه الوظيفة (الجديدة اقتصادياً) لا تُعد ربا، لأن العائد يتحقق من خلال تشغيل فعلي. فعلى أرض الواقع، رأس المال يتعرض للمخاطر، ويُقدِّم خدمة فعلية (المدفوعات) يقبل الآخرون دفع مقابل لها. وفي حين أنه من الطبيعي التعبير عن العائد على رأس المال لمُشغِّل عقدة البرق كـ"عائد"، إلا أنه من المهم أن نقدر أن هذا العائد لا ينتج من تقديم قرض بفائدة. بل هو عملية دفع نحصل لقاءها على خدمة قيّمة؛ والاختلاف فقط يكمن في أن رأس المال المطلوب لتقديم هذه الخدمات يكون على شكل نقد. قد يبدو هذا غريباً، وهو فعلياً كذلك: فهو نتيجة للخصائص التقنية الثورية التي يوفّرها البيتكوين. وبهذا، يمكن القول إن البيتكوين ليس فقط ضرورة لتسهيل المدفوعات في نظام تكون فيه جميع هذه المدفوعات مكلفة ومدينة، وقادرة على تنفيذ المعاملات بطريقة ذرية ومشفرة، ولكن يمكن القول أيضاً أنه أكثر توافقاً مع مبادئ السوق الحرة الإسلامية من ناحية تحديد الأسعار. ففي نهاية المطاف، المدفوعات التي تتم بالنقود الورقية لها أيضاً تكلفة، ولكن هذه التكلفة يتم تحديدها من قبل المصارف التي لها امتيازاتها، وهي مرتبطة بشكل لا يمكن فصله عن الائتمان. أما شبكات الدفع القائمة على البيتكوين، سواء أكانت مثل شبكة البرق أو شبكة "Ark" أو أي شيء آخر وحتى لو لم يتم اختراعه حتى الآن، فكلها لها تكلفة محددة علناً وموجودة بشكل تنافسي في السوق.
إن هذا الأمر يُبرز ما يُمكن اعتباره المكافئ الطبيعي لما يُسمّى "المعدل الذي يخلو من المخاطر" في التمويل التقليدي، والذي يعني فعلياً أنه خالٍ من المخاطر بالنسبة لمُصدِر العملة، وبتكلفة صفرية): المعروف باسم "معدل الإشارة المرجعية لشبكة البرق" لـِ نِك بهاتيا.[11] وفي حين أن هناك بعض المخاطر التقنية التي لا مفر منها عند تخصيص البيتكوين في شبكة البرق، فإنه لا توجد مخاطر اقتصادية بسبب انعدام وجود الائتمانات والالتزامات. بالطبع لا تزال هناك تكلفة، ولكن الفكرة، كما هو الحال في جميع أسواق رأس المال، العائد المتوقع من العروض هو ما يحدد السعر المناسب الذي يُحفز المستثمرين الحدِّيين.
وإذا أخذنا أبعاد هذا التحليل التقني إلى أبعد من ذلك، فسندرك أنه مع نمو شبكات مدفوعات البيتكوين، سيكون هناك طلب على البيتكوين من جانب الشركات التي ترغب بالاتصال في هذه الشبكات، سواء لكسب عوائد من تسهيل المدفوعات، أو من أي نشاط آخر! وبعيداً عن الخوض العميق في التفاصيل التقنية، يبدو هذا المنطق أوضح في شبكة البرق نظراً لطبيعتها القائمة فعلياً على نظام النظير إلى النظير مقارنةً بما هو عليه بالنسبة لـ Ark أو Zero-Knowledge Rollups، التي تعتمد على نموذج الخادم والعميل، وتُدار بأنواع مختلفة من "المشغّلين".
وبما أن هذه الشركات تحتاج إلى جمع رأس المال للاستحواذ على البيتكوين الذي لا تملكه أصلاً، فقد يتوقع المرء أن تقترضه بفائدة. وقد يشمل هذا معدل المرجعية لشبكة البرق في تحديد سعر الفائدة كنوع من المعدل الخالي من المخاطر أو حتى المكافئ لـِ LIBOR/SOFR. في حين أن هذا سيحدث بالتأكيد تقريباً (وربما حدث بالفعل)، إلّا أننا نعتقد أنه ليس النموذج المالي الأمثل، لأسباب تنبع من حقيقة أن البيتكوين هو نقد صعب حقيقي، وهو ما يتوافق بطبيعته مع مبادئ التمويل الإسلامي.
لنبدأ أولاً من منظور المموِّل: الوظائف والمميزات الموصوفة سابقاً تتطلب التنازل عن الحيازة المباشرة للبيتكوين، والتي، على عكس النقود الورقية القابلة للاستنساخ بلا تكلفة، تُعدّ من أخطر الأنشطة المالية التي يمكن للفرد الانخراط بها. ولهذا، فإنه من المرجح أن يكون السعر المطلوب للتعويض عن هذه المخاطرة مرتفعاً جداً. وللدقة، إذا كان العائد محدوداً، كما هو الحال مع الفائدة، فإن هذا من الناحية النظرية سيرفع من السعر المقبول.
الآن، لننظر إلى الأمر من وجهة نظر المُقترِض: من المرجح أن يكون هذا المعدل المرتفع جذاباً لأي مقترض يتطلع إلى توظيف رأس المال في سوق عالمي يكون مفتوحاً ومتنافساً وسلعياً إلى حد ما بحيث يكون السعر هو الفارق التنافسي الحقيقي الوحيد. علاوة على ذلك، يمكن القول إن معدل العائد الثابت خطير للغاية إذا كان مُقوَّماً بالبيتكوين لأسباب مماثلة. وهذا الخطر سيقل بشكل طبيعي مع إجراء المزيد من النشاطات المالية باستخدام البيتكوين. ولكن في الوقت الحالي كمرحلة انتقالية بينما لا يزال البيتكوين في طور التحول إلى نقد حقيقي، فإن الموافقة على تدفق ثابت من نقد صعب قائم على معروض نقدي تم تحديده سلفاً وفق جدول زمني صارم، بينما لا تزال نفقات المشاريع والتزاماتها مقومة في الغالب بعملات ورقية أضعف، إن هذا الأمر من شأنه أن يُبرز مخاطر تقلب أسعار الصرف التي على الأرجح لن تكون مقبولة. أما البديل من خلال إصدار أسهم إضافية لشراء ما يلزم من البيتكوين، فهو وإن كان غير فعّال من حيث كفاءة رأس المال إذا نُظر إليه خارج سياقه، إلا أنه يمكن القول إنه لا يزال الخيار الأقل سوءاً بسبب المخاطر التي يفرضها الدين المقوم بالبيتكوين والتي تكون أكثر تدميراً لهيكل رأس مال الأعمال من التقليل الضمني غير المباشر لحصص المساهمين.
وعلى النقيض من هذه المخاطر، نحن نرى أن نموذج تقاسم الأرباح المتوافق مع التمويل الإسلامي هو أكثر جاذبية وكفاءة في رأس المال لجميع الأطراف. فبالنسبة لمن يوفر رأس المال، إن المشاركة في الأرباح تُعوّضه عن مخاطر الخسارة. وبالنسبة للمستفيد (المُقترِض)، فرغم أن المدفوعات ستكون بالبيتكوين، إلا أنها لن تكون ثابتة، بل ستكون دالةً على أداء نجاح المشروع من فشله. لاحظ أن المنطق هنا موجه نحو تقليل المخاطر التي تهدد بُنية رأس مال المشاريع، وليس نابعاً من دافع أخلاقي صريح - ومع ذلك فإن ما ينشأ بشكل طبيعي هو بالضبط نموذج مشاركة المخاطر الإسلامي.
إن نموذج مشاركة المخاطر هذا بالكاد يمكن رؤيته في القطاع التقليدي للتمويل الإسلامي لأنه واقع تحت هيمنة التمويل القائم على النقود الورقية. ومع ذلك، فبدأنا الآن نرى ظهور شركات التقنية المالية الأصغر، مثل شركة "كوردوبا لأسواق رأس المال"، التي لديها ميزة القدرة على إعادة التفكير من المبادئ الأساسية التي تخص النموذج الاقتصادي الإسلامي وذلك بعيداً عن قيود إطار نموذج الاحتياطي الجزئي. إن السند المشارك في الأرباح (PPN) الذي أصدرته شركة "كوردوبا لأسواق رأس المال" يعالج الانتقادات الموجهة للصكوك بأنها شبيهة جداً بالسندات بسبب ربط التمويل مباشرة بالأصل الأساسي وأدائه. وبينما لم يُعر المصرفيون الكثير من الاهتمام بـ ِPPN، كان المستثمرون أمثال الشركات العائلية ورواد الأعمال (الذين يصنعون أشياء حقيقية في الاقتصاد الحقيقي) متحمسين. وبعد أن اكتسبتPPN مساحة إضافية في قطاع النقود الورقية كبديل لسندات التمويل التقليدي، ستكون الخطوة الطبيعية التالية هي إعادة تصميم هذه الأداة لتتوافق بشكل كامل مع البيتكوين.
يمكن تلخيص كامل هذه الورقة البحثية بشكل واضح وبسيط من خلال الآتي: نحن لا نعتقد أنه من قبيل المصادفة أن نموذج مشاركة المخاطر الإسلامي سينبثق من نموذج تمويل أصلي قائم على البيتكوين؛ بل نراه أمراً متوقعاً: فالتمويل الإسلامي يمنحنا دليلاً عمره ألف عام لما ينبغي أن تكون عليه أسواق رأس المال المبنية على البيتكوين من حيث التطور وطريقة العمل. وقبل أن نختتم المقال، سنشير إلى مُنتجَين قائمين على البيتكوين، وقد أُشير إليهما بمصطلحات نظرية في هذا البحث – الأول هو الاحتفاظ بالبيتكوين وتخصيصه لتوفير السيولة في شبكات الدفع، والثاني هو الحصول على تمويل مقوَّم بالبيتكوين لأغراض تشغيلية، على أساس تقاسم الأرباح – وهذا بالضبط ما تعمل "فْلَكْس" على طرحه في السوق. وبهذا، نعتقد أن هذه ستكون أول منتجات لإدارة أصول أصلية قائمة على البيتكوين، وبالتالي، ستكون بطبيعة الحال متوافقة مع مبادئ التمويل الإسلامي
[1] انظر، على سبيل المثال: (هل البيتكوين متوافق مع الشريعة؟) لمؤلفه المفتي فراز آدم (شركة Amanah Finance Consultancy Ltd، 2017)، الصفحات 23-28.
[2] نِك زابو، كتاب أصول المال، مُتاح هنا: https://nakamotoinstitute.org/library/shelling-out/
[3] إنشاء النقد في الاقتصاد المعاصر، نشرة بنك إنجلترا الفصلية، الربع الأول 2014.
[4] نُميز هنا بين القانون والسلطة القضائية. فمن المتفق عليه عموماً أن النبي ﷺ والخلفاء الراشدين الأربعة الذين خلفوه كانوا حكام الأمة وفي الوقت نفسه القضاة الرئيسيين. ومع ذلك، ففي جميع الحالات، لا يجوز للحاكم أن يخرج عن شريعة الله، ومن هنا جاءت آلية الضوابط والتوازنات التي يحققها وجود العلماء.
[5] الأئمة الأربعة، محمد أبو زهرة (دار التقوى، 2010)، صـ 139.
[6] ملاحظة ذكية عبّر عنها باركر لويس في مقالته الأخيرة البيتكوين هو نقد وعملة، متاحة على: https://x.com/parkeralewis/status/1895550178184110217
[7] بداية الإسلام وولادة الرأسمالية، بنديكت كولر (دار Lexington Books، 2014)، صـ 11.
[8] سنن أبي داود، حديث رقم 3451، كتاب 24، حديث رقم 36.
[9] كولر، صـ 103.
[10] هناك مجال للتفصيل التقني أو حتى النقاش هنا حول ما يشكّل بالضبط "البروتوكول" مقابل "الميتا - بروتوكول"، أو حول الخطط المختلفة لتعريف وترقيم "الطبقات". لكننا نتجاوز هذا التفصيل في النص الرئيسي.
[11] القيمة الزمنية للبيتكوين، للكاتب نِك بهاتيا، https://timevalueofbtc.medium.com/the-time-value-of-bitcoin-3807b91f02d2، منذ تطبيقها بواسطة سوق Magma التابع لشركة Amboss والمعروفة باسم (معدل شبكة البرق) https://bitcoinmagazine.com/business/amboss-unveils-liner-index-for-enterprise-lightning-adoption
الجزء الرابع: الخاتمة
المجتمع الذي تحكمه الشركات—أو ما يُعرف بـ"الكوربوقراطية – سلطة الشركات"- هو مجتمع يسعى لتعظيم الأرباح على حساب كل شيء آخر، وقد خلق اقتصاداً عالمياً وحافظ على استمراره، علماً أنه لغالبية القرن الماضي، كان يتغذى على الحروب أو التهديد بها. هذا النظام إما أن يُخضِع الدول الأضعف عبر بيع السلع والخدمات لها مُموَّلَة بالاقتراض بعملة أقوى بكثير من عملتها، مما يتركها تسدد الديون من عوائد عملتها الضعيفة التي كان يمكن توجيهها للصحة أو التعليم أو غير ذلك، أو يُخضِع الدول الغنية بالموارد عبر إجبارها على بيع مواردها المعدنية بتلك العملة القوية الوحيدة، بينما يُلزمها في الوقت نفسه بشراء سندات دين تلك الدولة (وهو ما يُنتج تجارة ذاتية التمويل يمكنها، على ما يبدو، الاستمرار إلى ما لا نهاية).
كل هذا أصبح ممكناً بفضل "شعوذة" التمويل الورقي. فطباعة النقود هي السلاح الذي يحافظ على سلطة القلة القليلة على حساب الأغلبية. ولهذا، قادنا نظام التمويل الورقي إلى "اقتصاد الموت" الذي يتميز بانهيارات السوق المتكررة والدورية، متبوعةً بعمليات الإنقاذ المالي. وهذا اقتصاد لا يخطط للمستقبل، ولا يهتم بسلامة الكوكب، ويحول البشر إلى مجرد عبيد للديون يمكن الاستغناء عنهم. وأي قائد لدولة ضعيفة يرفض الانخراط في هذه اللعبة سرعان ما يجد نفسه عرضة للاستبدال أو سيتم فوراً اقصاؤه.
لكن الثقة في الدولار الأمريكي كذخيرة لنظام "سلطة الشركات" باتت تتراجع بشكل سريع. وإذا لم تكن السنوات القليلة الماضية، التي كانت مليئةً بالتضخم المرتفع، كافية لإقناع العالم بضرورة التغيير، فلربما تدفع التصرفات الأخيرة للإدارة الحالية إلى تسريع هذا الانحدار. فحالياً، يُنظر إلى الولايات المتحدة، حتى من قبل أصدقائها، على أنها متقلبة وعدائية، ومستعدة لشن حروب تجارية ضد حلفائها مما أجبر هؤلاء الحلفاء على التفكير فيما كان حتى وقت قريب أمراً لا يمكن تصور حدوثه: التفكير بعملة احتياطية بديلة. صحيح أن حصة الدولار في احتياطيات العملات لا تزال مرتفعة، ولكنها تتراجع بشكل سريع.
فالبدائل التقليدية لا تبدو مقنعة. وقد يكون اليوان الصيني مفيداً للتجارة مع الصين، لكن الضوابط على رأس المال وأسواق رأس المال المحلية محدودة السيولة تجعله غير عملي كعملة احتياطية. أما منطقة اليورو فهي مفككة، واقتصادها أداؤه ضعيف، واليورو لا يستطيع مجاراة الدولار. والذهب أيضاً غير عملي، بسبب إمكانية تقليده وتزويره وإمكانية رهنه، كما يجب تخزينه في خزائن مركزية أو نقله عبر المحيطات تحت حراسة مسلحة.
وفيما يخص البيتكوين، فقد بدأت بعض الدول بتبنيه بالفعل سراً وعلانية كأصل احتياطي استراتيجي. وسواء كانت الدول أو شعوبها تؤمن بأنه "نقد جيد" أم لا، فهذا السؤال لم يعد مهماً، لأن نظرية الألعاب بدأت تفرض نفسها. ومع توفر كل هذه الأدلة بين أيدينا، فإن عدم إنشاء احتياطي من البيتكوين قد يبدو تصرفاً غير مسؤول، عمداً.
إن تبني المؤسسات والحكومات للبيتكوين قد يجعل مؤيديه المتعصبين غير مرتاحين، لكن من غير المرجح أن يؤثر هذا التبني بشكل جوهري على طبيعة البيتكوين اللامركزية. فتأثير شبكته قوي جداً الآن لدرجة تسمح له بالبقاء فيما يُعرف بـِ "نقد الحرية"، أي نقداً لا يخضع للتلاعب والرقابة.
فما معنى ذلك بالنسبة للبيتكوين كأساس للتمويل الإسلامي؟
يؤمن المسلمون بالاستثمار الروحي في هذا العالم (الدنيا) لآخرتهم (الآخرة). وهذا يُعتبر أرقى تعبير عن التفضيل الزمني المنخفض. فخلال شهر رمضان، يتدرَّب المسلمون على تهذيب الجسد والنفس وضبطهما، في تمرين يجمع بين الانضباط الذاتي، والتركيز على الصحة الروحية والعقلية والجسدية. فهم يرون أن عقولهم وأجسادهم نعمة من الله، ويدركون أن السعي وراء المتعة والملذات، والاستهلاك الطائش، والقيم المادية لن تنفعهم في الحياة الآخرة.
والنظام النقدي الذي يشجع على تأجيل الإشباع، والادخار والاستثمار للمستقبل، والسعي وراء مشاريع طويلة الأجل تؤثر إيجابياً على المجتمع وتُراعي الاستدامة، هو نظام يتماشى طبيعياً مع المفهوم الإسلامي للصبر. فإذا كان النظام الاقتصادي الذي نشارك فيه هو نظام يعترف بأهمية جميع الأطراف وذلك من خلال مشاركة المخاطر بين المشاركين، ومن خلال تقليل الغموض في العقود، ومن خلال منع تحوُّل النقد إلى سلعة قابلة للتداول في حد ذاته، عندها سيكون ذلك نظاماً متوافقاً مع القيم الجوهرية للإسلام.
وحينها، لن تكون المصارف الإسلامية خالقة للنقود، وهي المصارف التي تقوم بوضع عقود "حلال" مبنية على نظام الاحتياطي الجزئي، في محاولة منهم لتقليد المصارف التقليدية. وسيتم استبدال نموذج البحث عن الريع القائم على ملكية النقد، بنموذج الاستثمار في الأنشطة الاقتصادية الحقيقية. وفي ظل هذا المعيار، لا بد أن تكون جودة قرارات الاستثمار أعلى بكثير؛ وبهذا لن يكون مقبولاً اتخاذ قرارات استثمارية متعددة بطريقة عشوائية على أمل نجاح إحداها؛ بل يجب أن يكون لكل قرار مردود واضح.
وبهذا، لن تعود الهياكل التعاقدية التي تستخدمها المؤسسات المالية الإسلامية كونها مجرد قروض تم إعادة هندستها شرعياً. وسيتجه التمويل بطبيعته نحو مشاركة المخاطر ونحو شراكات استثمارية مثل المشاركة والمضاربة، التي تمنح مرونة للشركات والمشاريع التي تسعى للتوسع، ونحو عوائد للمستثمرين الساعين للحصول على نصيب من الأرباح. وبذلك، سيعود التمويل ليكون مرتبطاً بالتجارة.
وإذا لم يكن ذلك كافياً لإقناع المرء بأن البيتكوين يتسق مع القيم الاقتصادية الإسلامية، فمجرد حقيقة أن البيتكوين يتطلب استهلاكاً للطاقة لتعدينه وتأمينه، مما يُلغي إمكانية خلق النقد من العدم، وبهذا، يجعله بطبيعته مضاداً للربا، فهذا بحد ذاته حجة قاطعة.
رغم الجهود التي بُذلت على مدار ستة عقود لتطوير القطاع المصرفي الإسلامي، إلا أن الأرجح هو أن النظام النقدي الأكثر توافقاً مع الشريعة، ألا وهو البيتكوين، قد تم اختراعه من قبل شخص غير مسلم أو مجموعة من غير المسلمين، وله خصائص النقد السليم التي تتفوق على الذهب، وتشجع القيم الإسلامية مثل التفضيل الزمني المنخفض، وحقوق الملكية، والعدالة الاقتصادية، والأسواق الحرة، والحد من الاستهلاك والهدر، وربما حتى القضاء على الربا.